الشيطان2الفصل الثاني
1
مطاردة تجري في أحد شوارع حي فقير جعلت قاطنيه يحافظون على أنفسهم وأطفالهم بالاختباء خلف جدران منازلهم خائفين مما قد يصيبهم، وكيف لايخافون وهذا الحي لفقره يعتبر أكبر مركز لتجمع العصابات والقتلة يمارسون فيه شتى فنون النصب والقتل والإحتيال لأجل العيش كأن لا طريقة أخرى متوفرة لضمان عيش نظيف لا تزهق فيه أرواح.كل يوم تحدث أموراً سيئة تزيد من قلق السكان وخطورة العيش هنا ولا حيلة لهم سوى حماية أنفسهم بتجنب البقاء كثيراً في الشوارع واحكام غلق أبوابهم وتسليح أنفسهم كما فعلت بعض العوائل.
من هو المُطارَد ومن هم مُطارِدوه وماهو سبب مطاردتهم له؟.
إنهم شرذمة من أخطر العصابات في الحي التي لا تستطيع حتى الشرطة الإشتباك معهم وإيقافهم عند حدهم..أما المطارَد فهو شخص ما كان عليه أبداً حشر نفسه فيما لا يعنيه والاكتفاء بالمراقبة فقط دون التعرض للأذى، لكنه يأبى إتخاذ موقف يجرده من إنسانيته خاصة عندما تتعرض فتاة للإساءة.لقد رآها قبل أن يتحرك تقاتلهم ببراعة لكنها ضعفت وتمكنوا منها فاستدعى هذا تدخله العاجل ولن يكون اسمه فاعل الخير إن لم يخلصها منهم بل قرر التخلي عن لقبه إن فشل وهذا لحسن حظه ما لم يحدث.رمى جسده في أتون الخطر وانقذ فتاته غير مبالياً باصاباته وها هما الآن يركضان بسرعة جنونية يحاولان النجاة من هؤلاء السفاحين.وصلت المطاردة خارج حدود الحي ولم يتعب كلا الطرفين أو يستسلما حتى نزلا أخيراً في مترو نفق يعج بالناس وتواريا عن أنظارهم.
ربما لم يكتب لهما الصعود داخل القطار كونه غادر فور مجيئها لكنهما حتماً نجيا وهذا ما يهم طالما أنهما صارا في مأمن من رجال استسلموا لخسارتهم.
"تخلصنا منهم أخيراً"
إنحنى فاعل الخير واضعاً كلتا يديه على خاصرتيه وأخذ يلهث بشدة ثم استقام في وقفته مستعيداً تنفسه الطبيعي وسأل بإهتمام الفتاة التي حظيت بشرف مساعدته وكانت ترتدي قناعاً بلاستيكياً أسود خافياً كامل وجهها كاشفاً فقط عن عينين سوداوين بالكاد تلاحظان ومن قبيل الفضول سألها عن سبب مطاردتهم لها وجاءه الرد بكلمات جافة نافرة
"هذا ليس من شأنك"
استعدت لتركه والمضي بعيداً لكنها تسمرت مكانها حين باغتها بحركة صبيانية متهورة خالعاً عنها قناعها الذي كشف عن صرامة وجه مستدير ذو جمال عادي لا يجذب فيه سوى تلك العينان اللتان تجعلانك قسراً ترتعش من هول ما تحمله من شراسة وتمرد.أول ما لفت انتباهه، شفتيها المتغضنتين الممتلئتين وشعر بالسوء لكونها هكذا لا تلقي اعتباراً لصحتها وشبابها ثم استدرك موقفه وبادرها يلطف الجو
"إنها أنتِ حقاً..ميزتك رغم قناعكِ المخيف هذا يالي من ذكي..أليس كذلك؟..أوه..رايلي أنتِ حقاً تدهشينني..كيف تضعينه هكذا..ألا تخشين أن يتلف وجهك..ثم من سيرغب برؤية فتاة متعرقة الوجه.."
صمت لوهلة واضعاً إبهامه الأيمن على شفتيه رافعاً حاجبه الأيمن كذلك يبحلق فيها بطريقة أزعجتها وأغضبتها وودت لو تصرخ به وتعيده لرشده لكنه استبقها مرة أخرى موجهاً اصبعه نحوها وسأل مذهولاً كأنه فطن لهذا الشئ تواً
" أنتِ ترايسور صحيح؟"
لم يحر جواباً منها فهذا صحيح نظراً لبنية جسدها الرياضية وخفتها في الجري والحركة السريعة المتقنة التي شهدها منها قبل محاولته انقاذها حيث يمكن اعتبارها ترايسور وهو لقب يطلق على مؤدي رياضة الباركور الشهيرة التي عشقتها منذ صغرها وتعلمتها، بالإضافة لاتقانها بعض الحركات القتالية التي لا يمكن نفيها، كل هذه الصفات جعلت منها فتاة مميزة غريبة الأطوار بالنسبة للآخرين عرضة للسخرية أحياناً أو الخوف منها أحياناً أخرى.أجابته بتلميح عساه يفهمه
"ليس من شأنك"
"أيمكنك إخباري على الأقل عما تفعلينه مع هؤلاء؟..أعني أنا لست فضولياً بالعادة ولكن يحق لي معرفة نوع المشكلة التي وقعت فيها كي أتمكن من مساعدتك"
ً
سئمت من ثرثرته المتواصلة عديمة الجدوى وتدخله المرفوض بشؤونها الخاصة فجذبته من تلابيبه ناحيتها وسددت له نظراتها المتوعدة آملة إخافته.هي ليست بوضع يسمح لها باللعب مع هذا الطائش الغبي الساذج الذي رمى نفسه في النار دون إدراك الخطورة المترتبة لإنقاذ فتاة لا يعلم عنها شيئاً سوى حقيقة أنها زميلته في الصف، وهذا يشكل عبئاً لا تحتمله.قالت وهي لا تزال متمسكة به
"أولاً وفر نصائحك لنفسك، ثانياً دعنا لا نلتقي مجدداً وإن رأيتني في الصف تصرف وكأنك لا تراني وثالثاً شكراً مع أني لم أكن بحاجة لمساعدتك، رابعاً لن أساعدك عندما يأتون إليك وهذا ما سيحدث بلا شك.أنجو بنفسك..لا تقل بأني لم أحذرك، خامساً وداعاً"
أفلتته وأنحنت تلتقط قناعها ثم ولته ظهرها مبتعدة بأسرع ما تمكنها قدماها عن هذا المكان اللعين بينما وقفَ مشدوهاً للحظة يعيد ترتيب كلامها..سيأتون إليه؟!..أهذا يعني بأنهم سيبحثون عنه ويطاردوه وربما يؤذوه بأبشع الطرق لإعاقته مطاردتهم لرايلي!.إن كان هذا ما سيحدث فعليه إذاً تحمل تبعات فعله للخير.
وصل بعدها منزله سيراً على الأقدام وتوقفَ فجأة مستذكراً شيئاً بخصوص زميلته.هي غريبة الاطوار حقاً وغامضة.جدياً..مالذي كانت تفعله في ذلك اليوم؟!..وفيما هو على وشك الدخول لمح بوضوح فتاة ترتدي قميصاً أبيض فضفاض وجينزاً أسود اللون مع حذاء رياضي أبيض وشعرها الأسود اللون معقود على شكل ظفيرة طويلة وبجوارها حقيبة سفر تقف أمام منزل يقع على مسافة خمسة عشر متراً من منزله.
هيأ إليه أنها بحاجة إلى نوع من المساعدة، وحين قرر التحرك ولجت داخل منزلها مثيرة استياءه قليلاً لضياع فرصته مع جارته التي لم يتعرف عليها من قبل.عبرَ السور المحيط بالحديقة الصغيرة المتواضعة التي صممها والده البستاني وساعده في أمرها، ألقى نظرة عابرة على الأزهار ثم ولج داخل منزله ناسياً الباب مفتوحاً كما يفعل دوماً.سمع موسيقى الروك تعزف بصخب منبعثة من المطبخ وهذا شئ طبيعي فأخاه الأصغر عازف غيتار مشهور في مدرسته لا يكف عن العزف ليلاً ونهاراً مزعجاً من في المنزل وحتى الجيران وقد تمادى كثيراً في الآونة الأخيرة.
لا يجد الواحد مكاناً هادئاً في هذا المنزل الضيق كل شئ صاخب، ما أن تنتهي حفلة العزف حتى يأتي الوالد بضوضائه الناتجة من لعبه الورق مع جاره الذي يدعوا نفسه بنفسه.ثم تأتي الوالدة بثرثرتها المتواصلة مع أختها عن طريق الهاتف وتقطع المكان بكليته جيئة وذهاباً غير مستقرة على موقع واحد كنوع من التمرين لحرق السعرات الحرارية وهو رغم توارثه لهذه الصفات، إلا أنه يحب الهدوء لإراحة يومه الحافل بإنجازات كثيرة وقد طفح كيله وارتأى أن يلقن أخاه وفرقته المعتوهة درساً في الإحساس فشق طريقه نحو المطبخ وخرج من بابه الخلفي حيث يقبع المرأب الذي اتخذه اخاه وأصدقاءه الثلاثة مكاناً للتدريب وسحب القابس الكهربائي حيث توقفت الآتهم عن العزف وطردهم من المنزل بعصبية أخافتهم محتجاً لعدم رحمته به متعذراً كذلك بإمتحانه الصعب يوم غد حيث يتعين عليه التركيز وإلا رسب.بعد اعتراضات كثيرة من جانب الأخ، خرج مع أصدقائه متوعداً بأن ينتقم منه بالعزف ليلاً وترك المنزل بحثاً عن مكان آخر للتدرب.
توجه الفتى بعدئذ لحجرته ليحظى بقيلولة تريحه قليلاً مما عاناه وما كاد يفتح بابها حتى اعترضه أخاه الأكبر الذي جاءه من العدم يسأله عن موعد رجوع أبويهما من السفر.حدق به متفاجئاً لوجوده هنا فهو كان قد انتقل لشقته الجديدة مع خطيبته ولم يقم بزيارة واحدة مذاك الحين، وعندما سأله أخبره أنه قد جاء لأخذ بعض حاجياته المهمة التي نسيها.
"هيه موريس ..لديك جرح على وجهك..من أين حصلت عليه؟"
تحسس موريس جرحه أسفل عينه اليسرى وتذكر ما حدث منذ ساعات عندما تلقى لكمة كادت تفقده أسنانه لأجل فتاة شاء القدر أن يحتك بها بظرف سئ ولم يشئ إخبار أخيه عما حدث واكتفى بالسكوت منتظراً ما سيلقى عليه من دروس شبع منها وهذا ما حدث حين هدر أخاه قائلاً
"ساعدت شخصاً ما أليس كذلك؟..يا إلهي ألن تكف عن حماقاتك"
كان واضحاً عليه عدم الرضا عن تصرفاته الطائشة وما كان من موريس إلا أن يبتسم برضا مستعرضاً عضلاته مجيباً بمرح صادق
"عضلاتي هذه كما تراها بنيتها لأجل مساعدة الناس..سخرتها لأجل هذا الغرض النبيل"
"أخرق..مهما ساعدتهم، فسيؤذونك في النهاية هذه هي طبيعة البشر منذ الأزل"
عارضه مستهجناً طبيعته المحبة للخير بحكم ما تعرض له من مواقف مع شتى أنواع الناس لكن هذا الصغير مختلفاً عنه..لا ينوي تغيير مواقفه الطيبة ولا يهمه الطريقة التي يستجيب بها الناس إزاءه، ما يهمه حقاً هو أن أفعاله تشعره بأهمية وجوده في الحياة فأجاب خاتماً الدرس
"أنت ستتعرض للأذى من الناس حتى لو لم تساعدهم، غايتي هي رضا ذاتي وليحصل مايحصل"
قذف هذه الكلمات وأرتقى السلم نحو غرفته محدثاً أثراً في نفس أخيه.أحياناً، كلمة واحدة قد تكون شفاءً من مرض مزمن كهذا الذي يعاني منه أخيه الأكبر وهو إرضاء الناس قبل أرضاء ذاته.
2
"ماأحلى الرجوع للمنزل "
كانت هذه أولى الكلمات التي خرجت من فم ذات الجديلة الطويلة ما أن خطت داخل منزلها بعد مدة طويلة قضتها في الدراسة الجامعية.كم هي مشتاقة إلى كل زاوية منه، وحده من يشعرها بالانتماء الحقيقي دوناً عن غيره من الأماكن التي لا يمكنها أن تحل بديلاً.هي بالكاد حصلت على عطلة قصيرة ترتاح فيها من معاناة الدراسة وعلى أمل أن تستمتع بها ولو قليلاً.بدا المنزل خالياً تماماً يدل على خروج أصحابه للعمل ويالخيبتها.كان من المفترض أن يوافيها والدها أمام كليتها ويقلها إلى البيت، لكنه ربما نسي أمرها وكذا فعلت والدتها تحت وطأة عملهما.لا يهم ستذهب إليهما بقدميها وتفاجئهم.تركت حقيبتها في مكانها وهرولت متوجهة نحو غرفة أختها مشتاقة وفتحت بابها ودموعها تحتبس داخل عينيها.
دخلت ببطئ مزيحة الباب ووزعت نظراتها على كل ركن فيها..ثمة أمر مريب يحفها أم أن هذا نابع من غيابها عنها طوال فترة!.أحست بأن روح أختها اختفت من المكان وحلت محلها روح أخرى لا تألفها عللتها على أنها مجرد تصورات منها وجلست على السرير تناجي طيفها وتحيطها بآخر آخبارها.ثم ما أن أنهت خلوتها القصيرة منشرحة النفس، خرجت ترقص على شفتيها ابتسامة حلوة تعد بخلوة أخرى.
مطعم الزوجين غريغوري كان مزدحماً بشدة؛ فقد شهد إقبالاً كبيراً في الآونة الأخيرة وخاصة الشباب من الزبائن وأنتعش عملهما على غير العادة مما يعني وجود سبب قوي لهذه المنفعة اللاقبيل لها للزوجين ولمَ بالذات شباب يافعين.وبينما كان الجميع منشغلاً بعمله، بالكاد استطاعت ذات الجديلة الطويلة تمييز مطعم والديها للتغيرات الخارجية التي طرأت عليه.إنارة ساطعة وزينة من الأضواء البراقة ذات الأشكال المتنوعة وواجهته تحمل لافتة أكبر من سابقتها عليها اسم المطعم وشعارات ترحيب بالزبائن وخصم للمواظبين على تناول الطعام فيه بالإضافة إلى تخصيص يوم في الأسبوع لجمع التبرعات المالية للمحتاجين مكتوبة على ملصق أبيض خاص.انبهرت بما تراه، على ما يبدو أنّ كثير من الأمور قد تغيرت وساءها أنهما لم يشركاها في مخططاتهما المستقبلية الخاصة بالمطعم أو حتى إطلاعها وربما امتنعا كونها ترزح تحت وطأة دراسة صعبة ولايودان إشغالها كما فكرت.ولجت إلى الداخل محافظة على دهشتها التي أبت أن تزول؛ فهو ليس أقل جمالاً عن خارجه بل كان أكثر روعة ورقياً ومناسباً لذوي الدخل العالي ثم إن هناك العديد من الموظفين وقد كانوا ثلاثة من قبل.شئ عجيب!.كل شئ ينبض بالحياة ويجلب السعادة.هل ربحوا اليانصيب أم ماذا؟.فكرت مسرورة.ها هما قد حققا ما تمنيانه وإجتازا المرحلة الخطرة بعد مقتل ابنتهما الكبرى وهذا مطمئن بعض الشئ.
"عذراً هل أساعدك في شئ؟"
إلتفتت لمصدر هذا الصوت الناعم لتمر عيناها على تلك السيقان الطويلة النحيفة وذاك الخصر الرشيق الصغير وأخيراً الوجه الأنثوي الصغير الناصع البياض تزينه عينان واسعتان شديدتا الزرقة وأنف مستقيم منحوت بصورة طبيعية وتلك الشفاه الحمراء الناعمة مع بعض مساحيق التجميل الخفيفة حتى ليحسبها البعض عارضة أزياء أو احتمال بعيد أن تكون مصابة بمرض فقدان الشهية المزمن كما اعتقدت العجوزتان اللتان أكلتا هنا من قبل ولم تتوقفا عن الثرثرة عنها بشفقة.كانت ترتدي زي العمل وهو عبارة عن مئزر أحمر عليه علامة المطعم الجديدة الحرف الأول من أسم العائلة جي(G) وبنطال جينز وقبعة تماثل لون المئزر تحتضن صينية التقديم بينما تقف منتظرة رد الفتاة المدهوشة على سؤالها.
"آه..عزيزتي غريس لقد عدتِ"
أخرجها من ذهولها لهذه الفتاة صوت والدها الذي ما أن لمحها حتى أسرع إليها يحتضنها
بسرور
"أبي العزيز..اشتقت إليك..أين أمي؟"
"إنها في الداخل..آسف عزيزتي كان من المفترض ان نلاقيك في المنزل لكن كما ترين أضطررنا للبدء مبكراً"قالها بتعب ظاهر
"لا بأس ..أنا هنا الآن..صحيح المكان رائع حقاً"
قالتها وهي تمسح المكان بعينيها المتوهجتين ثم أضافت مستغربة
"متى تمكنتما من فعل كل هذا؟"
"سنؤجل الحديث عنه لوقت لاحق ودعيني أعرفك إلى مورغان العاملة الجديدة..مورغان إنها ابنتي غريس..إنها تدرس الطب"
إجتازت غريس إختبار الدخول بدرجة إمتياز وتم قبولها فوراً فقد درست بكل إرادة وتصميم وعزيمة حتى أنها أهملت نفسها وركزت جل إنتباهها على دراستها لذا فاعجابها بهذه العاملة الجديدة مورغان أشعرها بالغيرة والحرج كونها تقل جمالاً عنها وأقصر منها و لاترتدي ملابس لائقة.هذا بالضبط ما تفتقر إليه، انعدام الموضة والاكتفاء بما يستر البدن وحسب دون الاهتمام لجودة الملابس وأناقتها، وقررت منذ الآن الالتفات لنفسها والاهتمام بمظهرها..على الأقل فيما يخص الملابس المبهرجة التي لا تليق بها كما أخبرتها إحدى زميلاتها.قطع تفكيرها والدها حين همس بأذنها مشيراً للعاملة بامتنان
"إنها واجهة المطعم ..لقد فتحت علينا باب رزق كبير لمظهرها..أعني إنها جزء من الخير"
إذاً هذا يفسر سبب وجود الكثير من هؤلاء الشبان، إنهم هنا فقط لأبداء اعجابهم بها وطلب مواعدتها يا لحظها.إلا أن ما لا تعرفه غريس هي أن هذه الفتاة كانت تصدهم الواحد تلو الآخر وتحطم قلوبهم لسبب يجهلوه رغم معرفتهم بعدم امتلاكها لحبيب أو زوج وقد حيرهم أمرها.حييتها مورغان بابتسامة سحرت قلب غريس ووترتها إنها حقاً تملك سحراً خاصاً وبينما مرت جوارها لتستأنف عملها استطاعت ملاحظة تلك الثقوب الصغيرة على يديها المكشوفتين فتبين لها دون الحاجة إلى تفكير،
آثار حقن من نوع ما!.
رغبت فيما بعد بإشغال نفسها معهم عوضاً عن الكسل وتأمل الناس بطريقة قد يعتبروها مريبة وتدخلاً واضحاً في خصوصياتهم وتجنباً للحرج طلبت من والدها توجيهها نحو ما يمكن فعله ودأبت على عملها في خدمة الزبائن لمدة ساعة ثم قررت أخذ إستراحة تستغلها بزيارة صديق قديم يسكن الآن في مركز إعادة التأهيل.كان عليها التفكير بزيارته قبل التورط مع أحد الرجال المتذمرين الذي لم يعجبه أياً مما قدم إليه وتولت أمر اقناعه عوضاً عن تلك النادلة التي لم تعرف كيف تتصرف لينتهي بها الحال بأن طردته بكلمات غير مباشرة مسببة استهجان بعض المتفرجين الذين لم يرضوا بتصرفها وقد أيدتهم في ذلك والدتها ووبختها
فربما يؤدي هذا إلى سمعة سيئة على المكان.لكن كيف كان عليها أن تتصرف معه..أتركع له وتتوسل إليه كي يقتنع بوجبته؟.هذا لن تفعله حتى لو تعين عليها أن تخسر وظيفتها.فأمثال هؤلاء عندها لا يستحقون النعمة المقدمة إليهم دون عناء منهم بصنعها.بمجرد خروجها من المطبخ وصلت لأذنيها دردشة تجري عبر هاتف المطعم العمومي أحست من خلالها بكمية الغموض الذي يسبغه المتحدث في كلامه وكانت كفيلة بتغيير مزاجها.فهمت منه أخيراً إنه يبحث عن شخص ما وعليه إيجاده بأي ثمن.غريزة الفضول عندها إشتعلت كما العادة وأقتربت بحذر لترضي نفسها وكانت المتحدثة مورغان.
3
أخبار عنيفة ومؤلمة تصدرت صحف هذا اليوم منها حادث سيارة مؤسف أودى بمقتل عائلة متكونة من زوجين وطفلهما ذو الست سنوات،
وانتحار رئيس إحدى الشركات الكبيرة لإفلاسها، والعثور على جثتين لمراهقين قُتلا بطريقة غامضة وما زالت التحقيقات جارية حتى اللحظة لامساك الفاعل.أخبار مفقدة للشهية ومثيرة للأعصاب تجعلك تتأمل في أسباب هذه الحوادث وعمليات القتل التي باتت متسلسلة دون تفسير منطقي لها، ربما اعتاد البعض عليها ولا يكلفوا أنفسهم عناء التفكير بها ولمَ عساهم يفكرون في مصائب الآخرين يكفي ما يعانون منه.
أما بالنسبة لهذا الرجل فهو أمر مختلف.أخذ يذرع صالة الجلوس جيئة وذهاباً وفكره مشغول بأحداث كثيرة يتوجب عليه حلها.دق جرس الباب وتأفأف منزعجاً ثم أجبر نفسه على فتحه ليصير وجهاً لوجه مع رئيسه السابق الذي راح يرمقه بنظرات غاضبة معاتبة وشق طريقه للداخل متجاوزاً ثيو وجلس على أريكة صوفية مريحة.
"لمَ تجشمت عناء القدوم إلى هنا سيدي؟كان بإمكانك مهاتفتي"
قال ثيو وهو ما يزال واقفاً
"لمَ لم تحضر اجتماع اليوم؟"
تجاهل تساؤله فمجيئه لا يحتاج إلى توضيح نظراً لما تحدثا بشأنه البارحة وسأله بنبرة يشوبها بعض العتاب.جلس ثيو أمامه وقال بأدب طامعاً أن يتفهمه رئيسه
"أنا في إستراحة ثم أنني أخبرتك عن قراري"
بدت علامات الانفعال تعلو جبهة الرئيس العريضة ونفى يذكره بما قاله بالحرف الواحد
"دعني أنعش ذاكرتك قليلاً، لقد أخبرتني بأنك ستحضر فور إنتهائك من عمل طارئ، وكما أشعر فأن عملك الطارئ قد انتهى"
شدد على كلمته الأخيرة ثم عاد لسؤاله المهم
"لمَ لم تأتي لتساعدنا، لقد كان الجميع ينتظرك"
"لقد غيرت رأي ولن أتولى المهمة..أعتذر عن عدم إخباري لك مقدماً، كنت مشغولاً للغاية"
سكت الرئيس هنيهة ثم قال كآخر محاولة رغم معرفته بعدم جدواها لكن ربما تنفعه بما أن ثيو يحتاج إلى كل الدعم المادي لأجل تكاليف علاج أخيه
"ستدر عليك بالمال الكثير..إنها قضية كبيرة"
"لم يكن المال من أولوياتي يوماً، تعرف هذا"
تنهد ورمقه خائب الظن..لن يستطيع تغيير موقفه بهذه السهولة مع هيئته الجادة.ثم ما سبب إعراضه الغامض..لقد كان واثقاً بالأمس من مشاركته في التحقيق وذلك حين استشعر
من كلماته القبول فمالذي غير رأيه؟.سمح لنفسه أن يتأمل وجه هذا الشاب بينما كان شارداً في عالمه الآخر كأن لا أحد آخر برفقته ولاحظ على هيئته التعب والقلق من شئ خفي أشعره بالقلق كذلك تجاهه وأعرب عنه غير قادر على الكتمان
"ثيو..أتعاني من مرض ما أو..هل يضايقك أحد؟أشعر بأنك لست على طبيعتك فلتخبرني تعرف بأنني لن أتهاون عن مساعدتك"
أجابه مباشرة بعد أن انتبه لوجوده
"آه..أنا بخير لا أعاني من شئ..لا تقلق بشأني"
التمس الكذب في صوته وعلم أنه لن يخرج بطائل مع هذا الشخص العنيد فنهض يريد الذهاب.إنه لا يدع أحد يساعده في مشاكله ويحمل عبئ المسؤولية وحده فلمَ يتعب نفسه كثيراً في المحاولة لكنه لم يستطع أيضاً إخفاء استياءه ونصحه
"حاول ولو مرة أن تتنازل عن كبرياءك وتطلب المساعدة من الآخرين..لن يقتلك هذا صدقني"
ثم صفق الباب خلفه تاركاً ثيو محتاراً محرجاً لا يدري ما يفعله.رئيسه والآخرون لا يعون حجم المعاناة التي فرضت عليه الآن، لا يدرون بأنه أصبح مكبل اليدين والساقين والسبيل الوحيد للتخلص من أعباء أخرى هو التكتم لأجل دفع الضرر عنهم.فكر للحظات ورتب أفكاره جيداً ثم أخذ سترته وغادر منزله حازماً أمره.
في مكان آخر حيث مزرعة واسعة خضراء تسر الناظر وتبعث في النفس الطمأنينة والسكون تعود ملكيتها لرجل عجوز يناهز الستين اتصل منذ الصباح الباكر برجال الشرطة يبلغهم عن اكتشافه الذي هز أهل المزرعة والمحيطين بها.كان يقوم بروتينه الصباحي في تفقد الماشية والمزروعات حين تحسس أنفه رائحة عفنة تنبعث من مكان ما.قام بتتبع الرائحة حتى قادته لكتلة تراب حديثة الصنع خلف حظيرة الأبقار أمتزج ترابها ببقع حمراء فاقعة أثارت ذعره وقرر تفحصها فجاء بمعول وأخذ يحفر مقاوماً عجزه حتى وجد جثة لفتاة مشوهة الوجه جعلته يرتد إلى الخلف ساقطاً على ظهره مرتعباً.مرت عدة ثواني حتى استوعب الصدمة ثم هرع نحو منزله ليتصل بالشرطة التي لم تتطلب وقتاً طويلاً لتلبية النداء.
"محقق لوثر، هل ستشارك في التحقيق الجماعي الذي سيعقد قريباً؟."
سأل شرطي شاب المحقق لوثر وهو رجل متوسط الطول في منتصف عقده الرابع جاد في عمله لا يسمح بالأخطاء دقيق في كل شئ وكان مشغولاً بمعاينة الجثة فأجاب مقطباً بصوت خشن دون الالتفات للسائل
"كلا، هناك شخص لا أود مشاركته في التحقيق"
"ماذا أتخشى أن يتفوق عليك المحقق ثيو؟."
سأل مجدداً محاولاً إستدراجه لكي يعترف، لكن المحقق لوثر اكتفى بالصمت ناظراً إليه شزراً أفهمت الشرطي المغزى منها ونكس رأسه محرجاً.
"سأقبض على الفاعل بمفردي ولن أحتاج مساعدة أحد"
همس المحقق لنفسه واثقاً بقدراته.لكن هل سيتم مايرغب به أم سيقدّر له مشاركة شخص هو آخر مايفكر بالعمل معه؟.
يتبع
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro