2| الأكاسيا.
كانت صورة تلك الليلة التي طُمست كرسمٍ شفاف في جدارِ عقلها لا تزال مؤرقة.
مربكة ومبتذلة، أبعد ما تكون حقيقة من جميع شؤون الحياة.
كانت على شفير نسيان المعضلة، على وشك أن ترضح لوهمِ تقلبات عقلها في عواصف الفِّكر. قريبةً من التصديق بأن تلك الليلة لم تكن إلا مجرد حلمٍ عابر سينقضي كغيره.
لكنها لم تكُن كذلك, هذا ما صاحَ بهِ عقلها عندما أبصرت الجذع الفارع لشابٍ بشعرٍ ذهبي مجعد النهايات وابتسامة مريبة يرصفُ طريقه تطفلاً في منتصف ممرِ المدرسة.
انحصرت أنفاسُها بلمحِ البصر داخل صدرها, وانسقطَ ارتباكٌ لا يُزن على أطرافها حتى لم تستشعر إلا جرِ قدميها لها وراء حائطٍ حتى يختفي مقامُ بدنه عن ناظريها.
رغم الشفاه التي عسُر عليها جمعُ شتات الصمود, والجسد الذي يقاسي مناله ناح السكون. كلُ ما كان يراودُها في خضّم ارتباكها, هو اسمٌ واحد يتردد مرراً في مكانٍ اقرب لقلبها من عقلها. جيمين.
عليها إيجادُه وتحذيرُه. لا يزال شاذو الطباع هؤلاء وجوهاً مجهولة تأبى مفارقة مكانها خلف الستار. وأنت إن كنت بكامل عقلك, لا تحُدث من تشكُ بكونه يملك أنياباً محشورة أسفل الشفاه!
لذا أطلقت قدماها تجري, تحلِقُ بعينها على الفوضى العارمة التي غزلَها مختلفُ التواجد البشري في الأرجاء. كان قلبُها يتزلزل في كُلِ مرة تلمحُ فيها تفصيلاً يًلامس وجود جيمين, وتزفِرُ حينما تُدرِكُ بعده عن المنشود.
إلى أن لمحته, ها هناك مستقيمٌ ظهره في نطاق نظرها. باغتتها خطواتُها عندما قطعت أشبارًا عديدة في آن واحد بلهفة الوصول المطلوب, وخانتها مرة واحدة أيضاً عندما لانت وكأنها غصنُ نباتٍ مدهوس.
لأنها رأت ما وراء جيمين. الخصلُ الذهبية الهائجة للذي سبقُ رفيقها طولاً. أبصرت الشفاه المتحركة لذلك قطعت الحركة عن جميع أطرافها تماماً. ما الذي كانت تفعلهُ حتى؟ أوصدقاً آمنت بفرصةِ عدوله عن رأيه بعد تحذيرها؟
لم تأسرِ الحنقَ الذي قسرَ درباً على وجهها, وأكملت السيرَ بتزمت متكتفةٌ ناحهما. لترى إن كان لها سماعُ أي شيءٍ تنطقُ به الشفاه المتواطئة.
"فقط ألصقها تحت مقعدها, هذا كلُ ما عليك فعلهُ للخطوة الأولى."
كانَ صوتُ فارعِ الطول أول ما انحشرَ في أذنيها.
حدجت رفيقها, الذي كان برأسٍ مطأطأ بين كتفيه, يحدقُ بتمعنٍ بما سُلِم إليه. أطلت من فوق كتفه دون محاولة لجرِ الانتباه. وأبصرت المُعلق بين أصابعه. ملصق أبيض اللون, باهت بإفراط إلا من صورة لزهرة أكاسيا صفراء.
"تذكر أن لا تلحظ, حتى لا يراودها الشك. ليست هناك طريقة محددة لفعل الأمر. فقط أقبل عليه."
الابتسامة الواسعة على وجه هيرميس خالية من أي مكر. لا يتوارى فيها إلا فراغ كامن, لكن الابتسامة صادقة بالكامل. وكأن هذا وجهٌ منحوت لا يتزعزع. لكن صاحبه دون مشاعر.
كادت الأمور الجارية كالعادة تستنفذ صبرها, خشيت أن تتدخل وإن كان هذا ما يطيب لها. لذا زحزحت رقود عينيها يميناً ناح الرواق الذي وصلت منهُ آنفاً, فتدلى فكها بطفافة لاحقاً.
كان الذي تذكرُ بكونه يدعى تايهيونغ, يتعرجُ طريقاً في السير على طول الممر. التفاصيل المنسقة لوجهه خالية الوفاض من أي أحاسيس واضحة ذاتها كما كانت في تلك الليلة العجيبة. ولكن العينان الداكنة تغرقُ فضولاً وتسقي درباً منيراً خارجها. يداه معلقة ببعضها دون تفكير خلف ظهره. و المعطف الرمادي الطويل المتعلق من منكبيه إلى ركبه المتوارية خلف بنطالٍ أسود يكاد لا يتمايل ولو إنشاً أثناء مشيه لفرط رشاقة حركته. كان يتجولُ بين زوايا الممر. حيناً يقف يميناً حيث جماعة من الفتيات يتبادلن أحاديث هامسة تتجللها قهقهات خفية, يحدق بهم بعينيه الفضولية دون رمش يكلل جفناً ورأسه ميالٌ على كتفه. وحيناً يفعلُ المثل مع جماعة الصبيان على اليسار. لا يبدي أية تعابير, ويغيرُ من مكانه مع مرور كل خمس ثوانٍ.
آثرت تجاهُله هو والطريقة التي لم تكُن فيه أزواج المُقل تلحقه رغم كونه غريباً فارع الطول يسير بملابس لا تفسير لارتدائها في أي مكان يقرب المدرسة.
أعادت انتباهها لجيمين الذي كان هيريمس قد لفظ له آخر حديثه قبل أن يرحل بذات هدوء قدومه. تشبثت بالصمت لوهلة تنبشُ عما كانت تستطيبُ قوله. ولكن عندما كانت على وشك تفريق شفتيها, التف إليها صديقها. واكتسحت وجهه ابتسامة ضعيفة. ليست كنوع الترحيب أو ما إلى ذلك, بل تلك الأشبه بالتي تطالبك أن لا تبادر, أن لا تفعل ذلك الذي يدور في عقلك, ذلك النوع من البشاشة النزير الذي يبدو دون سبب وجيه متأسفاً.
تعلق ذاك الانفراج بشفتيه, وظلت تراه بوضوح حتى ولى ظهره لها وغادر برقة الرفيق المعهود. دون أي كلمة تسقطُ من هاوية تفكير كليهما.
كادت تزفر بخيبة أمل, حتى تسلق حواسها شعورٌ بأعيُن تدغدغ الجزء الخلفي لعنقها. التفت بتهور كعادتها التي لا تؤتى تفكيراً, وكادت عيناها تقفز من محجريها لرؤية تايهيونغ ها هناك, قد تسلل إلى قربها, كما المرة البكر السابقة. و لكي يكون الصدقُ طريق الحديث الأوحد. لقد أفزعها بشدة.
"لا تزالين تبدين مستاءة و بشدة بخصوص أمنية صديقك."
انكب الصوتُ العميق حالما نظرت إليه.
"لقد أخفتنني!"
شهقت حديثها مموضعةً كفًا يسار صدرها.
"لا يمكنك الظهور من اللا مكان هكذا كيفما شئت!"
"لكنكِ أبصرتني قادماً من الممر."
ميلَ رأسه وكأنه لا يفقه جملها وبذات الوقت يعيها بالكامل. وهي لا تعلم ما الذي يحدثُ في عقلها لتؤنبه حتى.
"لماذا أنتم هنا على أية حال؟"
تموضع نوع من الازدراء سريعاً في صوتها مكان اللوم السابق وهي ترمي بكفها بعيداً عن قلبها.
"إيجينا أرسلت غرضاً متعلق بأمنية صديقك مع هيرميس, وانتابتني رغبة بالذهاب معه."
تلى كلامه, بذات الطريقة التي لا يهتزُ فيها تفصيلٌ من ملامحه, وكأنما مكب كلماته الفراغ ومنبعها كذلك.
"أولا مشكلةٍ لديكم في كم الحشود التي ترى متجولين غير مألوفين عجيبي الطلة يسيران في أرجاء مدرسة ثانوية دون اكتراث؟"
ضيقت من عينيها عند الإدلاء باستفسارها أخيراً.
"من لا يرانا بداية في أوتغارد, لا فرصة لعينيه بإبصارنا خارجها."
جميع حروفه مرافقةً للطريقة التي يعلق فيها أنظاره على وجهها دون نوايا واضحة أو مفهومة كانت بالفعل مؤرقة.
"هذا يفسر الكثير."
تمتمت تلوذ برأٍسها بعيداً كي لا يتلاقى وعيهما
هو لسبب متوارٍ كلصٍ في الظلمات, لا يبدو سيئاً إليها مثلهم, رغم كون هالته مشابهة لهم, وكونه واحداً منهم دون أدنى شك.
"هناك شيءٌ متعلق بمنحدرات وجهك مختلف ومخالف للسجايا, وكأنكِ لست اعتيادية أو منتمية للدائرة الكبرى العارمة بالمتشابهين."
باغتها بسردِ أفكاره ثانية. دون طرفٍ يرتد, أو أطرافٍ ترتعش. كسكون ورزانة اسدال الليل لأسماله كل يوم.
"شكراً؟"
نبرتها أشبه للمتسائلة في الإجابة, لكنها أعادت بعضاً من تركيزها إليه. هو حقاً ينطق بأمورٍ مريبة كذويه.
وإن كان عليها الاعتراف بأن كلماته لم تزعجها بل على العكس بطريقة ما.
غادر تايهيونغ بعدما دارت أفكار لم يكُن لها سماعها بالتأكيد داخل رأسه. وكأن أحدهم تحدث إليه في كينونة عقله.
نطق الوداع وخافتت هي بواحدٍ أيضاً قبل أن تُقلب الأمر في طيات فكرها.
ثم استجمعت الغرز الماسكة لجأشها, وزرعت أقدامها في الممرِ الذي كان حافلاً بشدة لليوم. ناح صفها لتلحق بالدرسِ الذي كان الفاصلُ عنهُ بعض الدقائق التي تسارعُ بالجريان بعيداً عن متناول كفيها.
عندما دخلت وأخذت مكانها المعتاد, في الصف الذي يسار جيمين وخلفه بمقعدين, أخذت تحدق بالفتى متكدر الوجه, ويداه مضمومتان بوجل على فخذيه بينما عيناه تُجاهدُ مسافةُ من ثلاثة مقاعد وبعض من الرؤوس المتناثرة لكي تحدق بنقطةٍ أي من ركز بتصرفاته للاحظها.
قبلَ رنين الجرس بثلاثين ثانية بالضبط, ولجَت المنشودة, ومن كانت في ناظريها, مشؤومة لا محالة, لهم ولها. وأخذت مجلسها في مقعدها بينما تطرحُ الحقيبة الخاصة بها أرضاً دون كبحٍ للطيش. واستمرت في تبادل أطراف الحديث مع رفيقاتها وأجسامهن تتدلى من المقاعد دون جلساتٍ مستقيمة.
كانت تعلمُ أن أنفاس جيمين لا بد أن تكون متهيجة الآن تناجي مخرجاً ذي أمانٍ يسير من أضلاعه, خصوصاً مع ذاك الشي الذي هي متأكدة من أنه انصاع طلباً للفتى الأشقر وألصقه تحت مقعدها.
لذا هناك, وفي الصف الثاني من المقاعد, كانت باراڤاتي تجلسُ برأسٍ يتوسدُ كفها وتعبيرٌ متململ يعتلي محياها. لا تدري بالأكاسيا الصفراء الملتصقة بطاولتها.
ومن كان يتوقع, أن في نهاية الحصص الأولى, وعندما كان يهرول الأغلبية العظمى من القانتين خارج سجن الفصل . ستتلاقى عينا المنشودة بجيمين مبعثر الأوصال, وبطريقة ما, منذ بداية العام الدراسي, ستبتسم له. بصورة خلابة كانت سبباً في تخشب جيمين رهبةً. قبل أن يقاسي مبادلتها.
تحت أنظارها هي , التي لم تكُن لتغفل عما حدث.
فتاة تستضحك, أخرى تراقب, وفتى متحشرج الأنفاس.
______________________
كان من المفترض أن هذا الفصل يضم المزيد من الأحداث بحيث أن القادم يكون الأخير. لكن حسيت انه حيصير طويل بزيادة وياخد وقت، فعشان كذا اكتفيت بهدا الحد.
كيف الحياة معكم مؤخراً؟❤
شكراً على القراءة💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro