Red Night| 12
الفَصل 12: ليلةٌ حَمراء.
في مَتحف العُمر، تودِع الذَّاكرة حفريّات الماضِي العَريق الَّتي ما وسِعها النِّسيان؛ أشلاء ألبابٍ جاهَدت الانفِطار بما أوتيت مِن صبر، أطلال حضارات حبور تقهقرت في عزِّ شموخِها دونَ سابِق إنذار، وكانَت الأجفانُ لها قبورًا، وبسماتٍ اسودَّت كالسُّوس فاقتَلعتها الأساريرُ إلى الأبد.
بينَ شُعبِه الدَّهماء، يصطَحبنا الشُّرود في جولةٍ أحيانًا، وعِند كلِّ نصب يتلو عَلينا قصصًا تعيسَة كنَّا يومًا سجناءها، تطرُق في أفئدتنا أبوابًا شِئنا لو تظلّ موصدة، لتوعِّي أجيالَ الأملِ كلَّما عمَّرت عَلى رُفات أسلافِها فينا أنَّ الثِّقة بالحياة هلاك.
لا يَكتفي الألم النَّابع مِن الخذلان بتشويه محيطِ الحاضِر فحسب، بل ويدنِّس غدائِر الماضِي الجميل فتأسن، ولا تبقى بداخِلنا ذكرياتٌ خالصة نرتوي مِنها. ندرِك بمُرور الوَقت أنَّ كلَّ آصرة قدَّسناها ما كانَت بالعَظمة الَّتي تصوَّرناها سابقًا.
تفسِد الحَياة نقاءنا بفراشيها السَّوداء ثمَّ تعلِّقنا في ركنِ الوجيعَة مِن معرضِ البُؤس، كذلِك لم تسمَح لي بالعيشِ كإنسانٍ عاديٍّ مُنذ البِداية، أقِف أمامَ حائطِ عُمري ولا أرَى سِوى لوحتَين لي، صَبيٌّ واصِب ورجلٌ فارغٌ دونَ مناصِب. لا أدري ما إذا كانَ عليَّ أن أحزَن لأنِّي ما اختبرت الكثيرَ مِن العَواطِف، أم أسعَد لأنَّها رأفت بي وقَتلتني مرَّة لا غير!
هي الرَّبيعُ الَّذي خيَّم على قَلبي عقِب عصورٍ جليديَّة مديدَة وها هُو ذا يذوب، يزلزلني الوَجل كلَّما انجَلت مِن تحتِ ثلوجِي رقعةٌ خصبَة؛ أنا الَّذي خِلتُني أجرَد، وأتساءل ماذا لو زَرعت جُذورها بي فاستَعصى عليَّ استِئصالُها دونَ أن تأخُذني معَها؟
كُنت أعلَم أنَّها خطأ فادِح لكنِّي واظبتُ عليها، توجَّب عليَّ اعتِزالُها حينَما تسنَّت لي الفُرصَة، لما بتُّ محكومًا بجاذبيَّتها كالآن، تكبِّل كَياني بأرضِها. أفكِّر فيها مِن غمضةٍ إلى غمَضة، تبطِّن كلَّ فجوةٍ في نفسي، وبطريقةٍ ما تُشعِرني بالامتِلاء، كما لو أنَّها نواتِي المَفقودة، وربَّما أنثَى نوويَّة تفجِّر النَّوايا المَوبوءَة في صَدري، وتسعرُني!
دعوتُها إلى حُجرتي رغمَ الخَطر الكامِن في اجتِماعنا تحتَ سقفِ خَلوة، كُنت خيارَها الوَحيد لذلكَ وأدت الرَّفض بينَ شفتيها فما أبصَر النُّور أبدًا. اتَّصلت بأمِّها وأخبَرتها أنَّها لن تعودَ اللَّيلة بسببِ الظُّروف الجويَّة، هذه حقيقَة، الكِذبة تكمُن في سماحِ المُدير لها بقضاء اللَّيلة في غُرفة العامِلات. آويت إلى الزِّنزانة أوَّلًا، وعندما خلَت الأروِقة من الملأ ألحقَها مِينسوك بي، وأقفَل البابَ بإحكامٍ خَلفنا.
زفَّت خُطاها في عُقرِ حجرتي الَّتي تشمُل سريرًا فاخرًا، ثلَّاجة تُضمِر المُسكِرات، مكيِّف هواء يشغلُ الحائط، كرسيًّا خشبيًّا راسخًا بجوارِ النَّافذة، ومِصباحًا نفَث نورًا أحمَر، غلَّف الواجهات البيضاء.
شتَّت الانبهار خفقاتِها عَن شُحنات ائتِلافنا، وأفكارٍ جزمتُ أنَّها راودتها كما راوَداني. في خاتِمة جولتِها الوَجيزَة، تهاوَت عَلى السَّرير، وجرَّعت عمودَها الفقريّ مذاقه. ما لبِثت وأن حطَّت عَلى غُصنيَّ بسحنةٍ حبلى بالدَّهشة.
«هل أنا في السِّجن أم حدث وانتقلت إلى فُندق خمس نجوم؟ لماذا زنزانتُك أفضلُ من غُرفتي بمائة مرَّة؟ لا ينقُصك إلَّا تلفاز!»
تذمُّرها غدا سيمفونيَّتي المُفضَّلة، لن يكلَّ وقعُها في نَفسي ولو أنصتُّ إليها لدَهر. تنهَّدت بسخرية.
«ثمَّ تتَّهمني بالإفراط في مُشاهدة المُسلسلات!»
أجهَضتُ ثَورة ثَغري قبلَ أن يوافيها الميلاد ضِحكةً مذلَّة بحقِّي، كَم من مرَّة زرعت الفِتنة ضِمن حُصونِي المَنيعَة الَّتي ما انسلَّ فيها غريبٌ سلفًا؟
تعنَّت بَصري عَلى اعتِناقها، وبعسرٍ فصلتُه عَنها، واستَخرجتُ الهاتِف مِن تحتِ الوسادَة.
«ما الَّذي تريدين تناوُله عَلى العَشاء؟»
التحفتُ الجديَّة بينَما أبحثُ عن رقمِ الطَّاهي، وانتَظرت أن تنتقِي وجبةً تليق بمحفلِنا المَوعود. انطلق موكِب الحيرةِ من ثغرِها مُستعجلًا.
«والعَشاء يأتيكَ حتَّى زنزانتِك وفقًا لذوقِك الخاصّ؟ أهذا النَّعيم؟»
أدركتُ أنَّها لن تستعيدَ رُشدَها مِن مخالِب الصَّدمة قريبًا، رغمَ اطِّلاعها عَلى التَّمييز الَّذي حُبيت به هُنا بفضلِ سَطوتي، لستُ كأيِّ سجينٍ لا حَول له ولا قوَّة، كفَّة الخُضوع تفوقُه ثقلًا، ما أزالُ مثلما كُنت، رجلًا أسمَى من القانون. افترشت الكُرسيِّ بجوارِ النَّافذة، مشارفًا على معمعةِ العاصِفة، حيثُ رجَمت السَّماءُ الزّجاجَ بودقٍ كالحَصباء.
«لا بأس معكِ بالمأكولات البَحريَّة؟»
أومأت أرلين بالإيجابِ ومرَّغت كفّيها عَلى المُلاءَة بعبثيّة. كلَّما تعمَّقتُ في دراستِها، أيقنت بأنَّها محضُ طِفلة وأنَّبت نَفسي على هَزيمتها أمامها. رأيتها كلقطةٍ خادِشة بالحَياء، دحَضت عقلي ولم ترحَم رجولَتي، وتساءَلتُ أنَّى لي الصُّمودَ في مهبِّها، وأوتادُ صَميمي مكسورَة؟ بأيِّ إرادةٍ قد أتشبَّث وجميعُ دُروبي محفوفةٌ بِها لا خِيارَ أمامِي سواها؟
قدَّمت طلبًا عَلى وجبةٍ باذِخة، ثمَّ شخصتُ إلى انتِفاضة الطَّبيعَة، كأنَّ السَّماء أشفَقت عَلى شقيقتِها لِما اقتَرفه بِها البَشر فأرسلت جُندَها لتَطهيرِ ثراها مِن فوضَى التطوُّر، هكَذا أصيرُ كلَّما واقَعتها مُقلتَاي دونَ عِلمها. كُنت مهدَ الاتِّزان، ولكنِّي تحتَ حُكمِها معبدُ آثام، بينَ النَّظرة والنَّظرةِ تدلِف إليَّ أفكارٌ ملثَّمةٌ بالخُبث، تتضرَّعُ الانعِتاق!
أعدَّ طاهِي السِّجن ما أمليتُه عَليه في رِسالة، وخلال موعِد توزيعِ العَشاء، جرَّ الموظَّفون العَربات المعدنيَّة، بينَ الزِّنزانات، وأوغَل أحدُهم في فجوةِ بابي الأطباقَ الجانبيَّة تحت رقابَة مينسوك. اضطرَّ لمواربتِه حتَّى يهرِّب إليَّ السَّلطعون لجسامَة حجمِه، ثمَّ ادَّعى كلاهُما الصَّرامة لتَلافِي الظُّنون.
راقَبتني أرلين بينَما أنضد الأطباقَ عَلى الأرضيّة؛ مساحَة الزِّنزانة لا تسَع طاوِلة، اضطررتُ للاستِغناء عَن رفاهيَّتها مِن أجلِ ثلَّاجة الفودكا. وضعتُ لها نُمرقًا يقيهَا مِن بطشِها، فنزلت عن السَّرير، وجلست عَليه قُبالَتي بسيماءٍ ضَبابيَّة تُهت في عزِّها.
«ربَّما المال لا يشتَري السَّعادَة، ولكنَّه يقتطِف التّرف ولو نبَت في أعلى غضنٍ مِن جِذع الظُّروف القاهرَة!»
فرَّقتُ عيدانَ الطَّعامِ ودنَّيتُها منها، في حين التَجأتُ إلى شوكةٍ وسكِّين؛ الجانِب الرُّوسيّ غالبٌ عَلى طِباعِي. كانَت هي المَجرى لنَهر بصري، تقيِّده بضفَّتين مَسنونتين، ولو جنح عَنهما لشطرهُ شَفراها ومآله أن يسفَح بجوفِها. التَزمتُ الصَّمت، إذ شعرتُ أنَّ وفاضَها ما يزالُ متخمًا، سُرعان ما التقطت العيدانَ وحشَت فمَها بحفنةٍ مِن الأرزّ.
«السَّعادَة هبةٌ مِن الحياة والحياةُ مشهورةٌ بالحِنث، لكنَّ المالَ صادِق، ولو خُيِّرت بينهما لانحَزتُ إليه دونَ تردُّد، حبَّذا لو أنتحب في طائرةٍ متَّجهة إلى جزرِ المالديف عَلى جُدران متهالِكة، يُضاعِف النَّظر إليها تعاسَتي».
المالُ راسِخ ولكنَّ السَّعادة متقهقرة، ككلِّ بنيانٍ تشيِّده الحياة فينا بموارِد مغشوشَة، لابدَّ وأن نمرَّ بضائقاتٍ عاطِفيَّة، نشحذ فيها الاهتِمام مِن عيونٍ أفلسَت بغتَة، ومِن المريحِ أن لا نضطرَّ للقلقِ بشأنِ أوضاعِنا الماديَّة عَلى الأقلّ حينذاك.
تسلَّحتُ بالسكِّين، ورُحت أشرِّح السَّلطعونَ بتَركيز.
«اكتُبي الرَّقم الَّذي تنشدينه وسوفَ تحصلين عليه، استغلِّيني كما أستغلّك».
ضحكت وفمُها ممتلئٌ بالطَّعام فتبعثرت حبيباتُ الأرزِّ عَلى قارِعة شَفتيها وبلسانِها كنسَتها. ما تساقَطت إلَّا زخَّات مِن الزَّمن، حتَّى دندنت بنبرةٍ طُفوليَّة.
«أستغلُّك لأغراضٍ نفسيَّة، حتَّى وإن عرَضت عليَّ إقامةً أبديَّة في الفِردوس لَن أضحِّي بهذِه اللَّحظة».
واصلتُ تَقطيعَ القوقعةِ الصُّلبَة تحتَ رحمةِ سكِّيني المَشحوذ، وحالَما حظيتُ بشرائحَ مِن لبابِها وضعتُها كلَّها عَلى صهوةِ الأرزّ في صحنِ أرلين. هذِه أوَّل مرَّة أراها فيها وهِي تتناوَل الطَّعام، وشهيَّتُها المَفتوحَة سرَّت نَظري، يُمكِنني مُشاهَدتها طوالَ عُمري.
شردتُ قليلًا بينَ أوصالِ الكُتلة، إلى أن وخَزني صوتُها الرَّفيع كشوكَة.
«افتَح فمَك إيفان».
مدَّت نَحوي عوديّ الطَّعام، كانَا يُحاصِران قطعةً مِن السَّلطعون يتخلَّلها الأرزّ. نتأ الاستِنكارُ بينَ حاجبيّ، وقبلَ أن يكلِّل الرَّفضُ فمِي جنَّدت عينيها لدَحره.
«أرجوك، أرجوك، أما أخبَرتني أن أستغلَّك؟»
انصَعتُ لها عَلى مضض وفَغرتُ فمِي. قرَّبت اللُّقمَة منِّي، وبينَما أتأهَّب لاستِلامها أعادَتها أدراجَها إليها، واستَولت عَليها بطيش.
لم ترُقني حيلتُها، وربَّما حقيقة أنَّها انطَلت عليّ. كانَت المسافةُ بيننا قصيرة، اختزلتُها بانحِناءةٍ طفيفة أودت بي إليها. أنشبتُ عَلى عُنقها بكفِّي ومحقتُ الشِّبر الَّذي حالَ بيننا وبينَ الالتِحام. بقواطِعي اختَطفتُ الشَّطر البارزَ مِن الشَّريحَة، ومُذ أنَّها ما بترتها ظفرتُ بباطِنها أيضًا، فاحتكَّت أنسِجتُنا مُولِّدةً شراراتٍ كاويَة. وصلتُ إلى هذا الامتِداد مِن مقامَيها، لم أستطِع الرَّحيلُ دونَ إلقاءِ التحيَّة عَليهما بلغةٍ فرنسيَّة حميمَة، اختصرتُها في ثوانٍ، ففمِي قد بات مشغولًا.
خلَّفت الخرابَ في مِحراب وَجهها؛ لم تتوقَّع أنِّي سأدنِّسها بجرأة، ثمَّ جرجرتُ سبَّابتي عَلى رصيفِ شفتِها بإقذاع، مِثل رَجزٍ خَليع.
«لا تَعبثي معي آرلي».
وقَعنا في شراكِ السُّكوت مِن جَديد، واجتَرعنا العَشاء دونَ أن تطهُو مِن كلِماتها الحُلوة أحاديثَ لا طائِل مِنها، تُطيِّب خاِطري، وتعبِّئ داخلي الشَّاغر.
بعدَما سَطا الخَواء عَلى جميعِ الأطباقِ إلَّا الرَّئيسيَّ، إذ كانَ أعظَم مِن أن ننهيه، لملمتُها في صفٍّ واحدٍ ثمَّ سلَّمتُها لمينسوك خِلسَة، دونَ أن يلاحِظنا أحد، حياةُ السِّجن أجبَرتني على القيام بمهمَّات اعتادَ الخَدم تولِّيها كالتَّنظيف، وبقيَّة الوَقت أنفقُه على النَّوم، لطالَما كُنت شخصًا كسولًا، في زنزاناتِ الأرق أتخبَّط، قبلَ أن تقبِضني سكراتُ النُّعاس لأمد!
للتَّحليَة سكبتُ كأسَ فودكا وأضرمتُ سيجارة، بينَ الحينِ والحين كنت أصادر قسطًا مِن ضرِّها، فتعلق شظاياه بجوارِحي، رغمَ أنَّ دُخانَه يُفارِقني مَع كلِّ دفعةٍ مغتصبة تعبُر حُدودِي.
ما تفتأ الدُّنيا ملحمةً آلاتُها ودقٌ ورعود، وفحواها طوفانٌ أغرَق آذانَ الغبراء بلا إذن. حاولتُ باستماتةٍ التَّغافُل عَن بُؤرة الإغراء الَّتي بثَّت التَّجاعيد عَلى سريري، بينَما تعبثُ بهاتِفها، ولكن سدى. ما لبِثت وأن قامَت وحبَت قدماها عَلى الأرضيَّة نَحو مَقعدي في صراطٍ مُستقيم، يَرقاها التوتُّر.
«سأفشي لكَ سرِّي الأجلّ بلغتِك، أرجو ألَّا أكون مخطئةً في النُّطق».
لويتُ شَدقي بتهكُّم.
«حدسي يخبرُني أنِّي لَن أستَسيغ ما سأسمعه».
لثَّمت فوهَة السِّيجارة بترقُّب، فيما انتَعلت الصَّرامة رغم أنَّها أضيقُ مِن مقاسِ ملامحها القسيمَة، وأقسَى عَلى طينتِها الحميمَة.
«po'shyol na hui».
لفرطِ الصَّدمة تخاصَمت شَفتاي، ومِن المضيقِ بينهما انبَعث زفيري الرَّمادي، دونَ تدخُّل منِّي. كانَت الحمم تتمخَّض في صَدري رغمَ هدوء سحنَتي.
«لا تقصدين ما تقولينه».
صعَّرت ذقنها بأنفةٍ مثبتةً كلامها.
«بلى، أقصدِه».
كظمتُ غيظي مؤقَّتًا ونهضتُ عَن الكُرسيِّ مُصطحبًا لُفافَة التِّبغ معي. صارَعت بما أوتيت من تماسُك لئلَّا تفقِد منزلتَها في بُؤبؤيّ، كأنَّها لم تقترِف للتوِّ ذنبًا لا يُغتَفر، يُفترضُ أن ينصَحها بالفرار، ربَّما لأنِّي أغدَقت عليها بنُبلي، نسيت كَينونتي وأنِّي أفوقُها بأجيالٍ عدّة، والتَّقليل مِن احتِرامي انتِحار.
حيثُ يضمحلُّ زفيرُها رسوت. حصدتُ مِن السِّيجارة حزمةَ سموم، ثمَّ قبضتُ عَلى كتفيها بخُشونة حريصًا أن لا تفلت منِّي أبدًا، وطرحتُها بجوفِ فمِها في قُبلةٍ موبوءَة، نقلتُ إليها نَفسي إلى آخر رمق ونازَعت في سبيلِ حريَّتها دون فائدةٍ تُرجى. لو كان المُنتهك غيرَها لخرَّمت رصاصَتي ناصيتَه.
حينَما أفرَجت عنها ارتدَّت إلى الوَراء، وشقَّت طريقَها نحوَ الخَلاص بعيدًا عَن نِطاقي. راحَت تسعلُ باختِناق إذ لسَعها السَّقم الَّذي حقنتُه فيها بلا رحمَة، حتَّى لطَّخت الأورِدة الحَمراء بياضَ لحظِها.
مرَّغت السِّيجارة بالمِنفضَة المعدنيَّة، وغمغمتُ صائمًا عن النَّظر إليها، خشيَة أن أستبدِلها بها.
«اعتَذري».
اجتاحَ الوَجل صدرَها مدجّجًا بالأسَى الَّذي أدمَى مآقيها، لكنَّها هزَّت رأسَها معترضَة.
«ستَندمين».
صارَعت رياحِي بما أوتيت مِن تماسُك، ربَّما تعتقدُ أنِّي أمازِحها!
«اجعَلني».
تقلقلَ زَفيري وارتَجفت قبضتايَ سخطًا، كان الدِّفاع عَنها أمامَ كبريائي قضيَّة خاسرةً منذ البدايَة. حكمتُ عليها بمشنقةٍ حكتُها لرقبتِها من كلتيّ يديّ، أفقدَتها الشَّهقة تِلوى الأخرَى، لم يسبِق وأن ابتُليت بإحدى نوباتِي العصبيَّة، أنا رجلٌ سلِس ولكنَّ غضبي شرِس. ما هي إلَّا برهة حتَّى غرِقت قارَّتاها في محيطٍ من الشَّجن، وبصوتٍ متحشرجٍ عاتَبتني.
«لماذا خدش اعتِرافي أعصابَك؟ هل لأنَّني لا أستوطِن أيَّ شبرٍ من شغافَك؟ يُمكنك رُفضي بلُطف!»
جحَظت عَيناي، وارتَخى وثاقِي حولَ عُنقها شيئًا فشيئا تزامنًا وانقِشاع غضَبي، أدركتُ متأخِّرًا أنِّي ظلمتُها، هي لا تعرِف مَعنى الجُملة الّتي ألقَتها عَلى مسامِعي، بل وتظنُّ أنَّها اعتِراف بالحب.
سيولُها الحزينَة جرَفت بَطشي إلى مُحيط الارتِباك، لم أعلَم ما الَّذي ينبغِي عليَّ فعلُه لإخمادِ حسرتِها. وسطَ زوبعة الضَّياع، تضوَّع بصري في الجوِّ دون غاية، وبعثَرت كفِّي خصلاتِي البيضاء.
«ما قُلته ليسَ اعترافًا بل إهانَة، هل تقذفينَ كلَّ ما تلتقِطينه من مصادِر مجهولة دونَ تفكير؟»
كانَ وجهها مآلًا لأسرابِي الضَّائعة مِن جَديد. بعدَما أصلَحت كُسورَ غُروري في قلبِها، أنا الَّذي بخلتُ عَليها بألفاظِ العَون، تلعثَمت.
«ولكنّ مينسوك أخبَرني أنَّه كذلِك».
ارتَفعت نَبرتي وناهَزت الصُّراخ.
«كان ينتقِم منك أيّتها البلهاء».
تطلَّب منها الاقتِناع مشورَة هاتفها، تَطبيق التَّرجمة تحديدًا، حيثُ بعثَت الجُملة الَّتي كادَت تتسبَّب في هلاكِها، وردَّ عليها بلغةٍ تفهمها «اللَّعنة عليك». ها هو ذا الإحراجُ ينتابُها ويخسِف بشموخِ رأسِها.
بلَّلتُ شَفتي السُّفلى بلِساني، ثمَّ عقدتُ ذراعيَّ إلى صَدري، وطالعتُ وَجهها، لكماتُ الدَّمع جعلته يتورَّم، الحُمرة تخضِّب معظَم جوانِبه.
«تدينين لي باعتِذار».
لَم أقدِّر مدى الإغراء المَخزون في الاعتِذار حتَّى سننتُه بحقِّها، وما اكتَفيتُ بكلمةٍ فارغة
«آسفة».
الآن وقد زالَت شوائِب اللُّبس عن شرابِ اعتِرافها اشتَهيت أن ينطِق جسدُها شغفًا بي أيضًا. كانَ حبُّها لي واضحًا، سبقت مُقلتاها ثغرَها في المُجاهَرة به، ورغمَ أنَّ مشاعِري نحوَها ما تزالُ غامضَة أعِي جيِّدًا أنَّها ليست كغيرِها من الوَرى.
وطأت أنامِلي خدَّها، وأزاحَت عَنه قطرةَ أسى، ثمَّ انتَهكت بُستانَها الغانِي. جنيتُ بإبهاني لمساتٍ سامَّة، أماتَت جانِبي الرَّزين، وما تبقَّى مِنِّي إلَّا الجُنون.
«دينُك أعظَم مِن أن تسدَّه شفتاك، أريدُك كتعويض».
في لحظةٍ عمياء أزلَفت مِن مُحيَّاها عَلى مهلٍ كغيمةٍ مشبعةٍ بالمُعصِرات؛ كانَت ما جنيتُه مِن حرارةِ هذِه الخلوة. نبَّأها سَنا الدُّجى بينَ جفنيّ، ورعودُ السِّنة أنِّي أريدُ أن أغمرَها اللَّيلة.
«دَعيني أخالجك، ولنخلق ملحمةً حميمَة لا تُنسى!»
همستُ عَلى مسافةٍ مِن أساريرِها حيثُ اشتَهيتُ الخُلود، جفناي يتداعَيان، منسوبُ وعيي يتقلَّص والعذابُ بداخِلي يتراقَص.
لَم أنَل مِنها ردًا، ربَّما ما تزال مستاءةً من انفعالِي السَّالف، رغبَتي بها منَعتني مِن التَّنازُل عَن مُتعتي المَوعودَة بينَ سراياها. أجَّلت الاستِقاء بخمرِها، ولتهرِّبني إليها رشوتُها بقبلاتٍ لا تُضاهِي الاحتراقَ في رَصيدي، دفنتُها في فكِّها، خذِّها فأذنها.
«تريدينَني، أوليس؟»
تحرَّشت بذراعَها العاريَتين، واستملتُها إلى صفِّي رغمَ أنِّي أذنبتُ بحقِّها مُنذ قليل، ثمَّ كسرت أنفاسي الواهِية أسوارَها.
«أريدُك، سيّدي».
استَبدلتُ صَدرها بظهرها، استَبحتُ الالتِحام بها، وما كبتُّ شائِعات التَّوق الَّتي تداوَلها جَسدي. سيَّرت كفِّي عَلى عُنقها، وعوَّجتُ استقامَتها حيثُ ارتفَع ذقنُها إلى أقصَى قمَّة ممكنَة.
«ستكون ليلةً حَمراء، حُلوتي».
أرقتُ شآبيب لهفَتي عَلى عُنقها، فارتَعشت كما لو أنِّي زمهريرٌ حارِق ابتُليت به، وما امتَلكت العزيمَة الكافِية للانشِقاق عَن ذِراعيَّ اللّتين احتَكرت أديمَها. في قعرِ الرَّغبةِ تهاويت ثمَّ قُمت مَكسورَ الإرادَة مغيّبًا، ووطَّدتُ أصرَها بجَسدي.
بجشعٍ جابَهت يدِي الطَّليقَة قميصَها، حتَّى مشَت حافيةً مِن أنعالِ الزِّيف عَلى سجَّادها الوثير، لم أخفِ عَنها طُموحاتِي الآثمَة، فمُنتهايَ معلوم. بخناجِر كفِّي سلختُ أنفاسَها، وألقيتُها عَلى ثَرى الاهتِياج إربًا إربا. اقتلعت جميعَ لافِتات المَحظور، إذ أمالت رأسَها ذاتَ اليَمين وأباحَت لي اجتياح بساتينها العَذراء، لأزرَع فيها شبَقي، وأشيِّع إليها تَوقي؛ هي مثواه.
لم يروِني ما ارتَشفته من آبارها، ولم أكتفِ بما أحرزتُه مِن أمجاد، هلهلت لها شَفتاها بموسيقَى أنثويَّة مُغرية. أنا الرَّجل الَّذي يتغنَّى بالهُتاف إبَّان غزواتِه السَّريريَّة، وبتلات الخَدر المُتناثِرة عَلى شرفِ انتصاراتِه، وددتُ اغتنامَها؛ في تلكَ اللَّحظَة ما عبِئت لبراءَتها المعتَّقة، رغبتُ في أن أدشِّن كلَّ مقامٍ مِن مقاماتِها العَريقة، وأحبرَ بقلمِ شَوقي فيها دواوين.
التخيُّل مزَّق أشرِعتي وثنى صارياتي، أدرتُ دفَّتها نَحوي بغِلظة، وحكَمت عليَّ بالتِّيه في عينيها، ثمَّ طيَّبت ثغرَها بلُثمة هشَّمت كَلينا، شيئًا فشيئا نجَّر شهيقُها النَّابي عودي وشطَرني نصفَين يتيمٌ ومتيَّم، طعمُها كسيجارةٍ مثلي. نزَحنا صوب السَّرير ببُطء، هُناك حيثُ غشيتُها عَلى قيدِ الانتِظار، وبينَ الانكِسار والانكِسار تُجبر نظراتُنا نيابةً عن شفاهنا، فتنذر لي نَفسها طوعًا، رغمَ أنِّي شيطانٌ رَجيم.
أحببتُ فواصِل السُّكون منهَا انفجرت اعترافات خالِصة، غمَرت مُهجَتي المقفرَة، مهجةٌ جافاها الحَنان، وما داراها الحَنين. أنا الظَّلام الَّذي أعمَى بصيرتَها، فوقعت في هاويةِ الحبِّ النَّجسة، وانجَذبتُ إليها بكلِّ وجدانِي الدَّامسَة، رغمَ يقيني بأنَّها ستضرِم مشاعِلي وقد تُفقدني ماهِيتي. كُنت رجلًا أجوفَ اللّبِّ أعجَف الأعصاب، يُؤذيني النُّور المُنبعِث مِن صدوعِ الانحناء، لذلِك حصَّنت نَفسي مِن الدُّخلاء.
ساوَرتُ لِسانَها وسوَّرت كفَّاي تضاريسَها، وهيهاتٍ بيني وبينَ الارتِواء، كأنَّه أجلَى واحاتِ الوِصال فما نافَت رمضاء الخَيال. باتَت الأقمشَة الرَّفيعَة حواجز سميكَة حرَمتني نعيمَها قصفتُها، وأميالًا قصيَّة شقَّتها يدايَ إليها، لا يفصِلها عَن العُري إلَّا خطوتين.
قرَعت صَدري مرارًا وتكرارًا تحملُ بينَ قبضَتيها شَكوى، أبيتُ أن أفتَح نافِذتيّ وأصغِي إليها، كُنت منهمكًا في مُعاقَرتها.
«ألا يسعُنا الاحتِفاظ بملابِسنا؟»
ورَدتني نغَماتُها الخَجولة، حالَما شقَّ الاختِناق بيننا متنفَّسًا، وما استَطعت تجاهُلها، حدَقتاها متلجلِجتان وحمرةُ خدَّيها تُنافسُ إنارَة الحُجرة.
«أجزِم أنَّك اصطَدمت بنساءٍ أفضَل منِّي قوامًا بل ولا أقارن بهنّ، لا أريد أن تراني».
انتابَني الإغراء، وأردتُ أكلها لأنَّها ألطفُ كائنٍ استضفتُه في حياتي. نقلتُ يدي من خصرَها إلى ذقنِها، وثبتُّ لوحَتيها المهتزَّتين بعينيّ المَفتونتين.
«أتجحدين عَليَّ بفتنتك صغيرَتي؟ وأين النَّفع لوما أشعَل جمالُك فتيليَّ لأبصِر مسالِكك؟»
كادَت تتحدَّث، لكنِّي ردمتُ نبعَها بسبَّابتي.
«صه، لا تغزِلي كلمة أخرى، لفمِك اللَّيلة وظيفَتان لا تتضمَّنان الحديث».
عشَّش التردُّد بينَ حاجِبيها، مُهاجرًا من بقاعَ النّقص في ذاتِها، نفضتُه عنها بغزلٍ أقذَع، وظفرتُ بإطلالةٍ شاملةٍ علَى مَكنوناتِها، هِي المنحوتَة الآدميَّة الَّتي سلَبتني طَوري فسَجدتُ لها. بحياءٍ أزاحَت بصرَها عنِّي، كأنَّها تبتغِي الانغِماسَ بينَ تجاعيدِ الملاءة، ريثَما تكفُّ ألسِنتي عن التحرُّش بها. أرشدتُ يديها إلى تلابيبِ قَميصِي، ووسوستُ لها بصَمتٍ أن تُجرِّدني مِنه، فخَلعت ثيابي ومعَها ثباتِي وعقلي!
بعدَما تحرَّرنا من أغلالِ السَّرابيل، حططتُ نقطَة نِهايةٍ لا تَهون عَلى صفحتِها الحَمراء، واحتضر الصَّبر. لفحَت أنامِلها الرَّقيقَة ترائِبي كنسمة، وعَلى قفا عُنقي تضافَرت، عيناها كليلَتان كهِلال، أهدابُها متدلِّية كعُنقود، شقائِق الخَجل مشتَّتة عَلى وجنتيها، وخصلاتها الحَريريَّة تحجِز الوسادَة.
كانَت مخدَعي الوَحيد، فيها مارَست الخُدع، لقَّنتُها كيفَ تنسجُ النَّشوَة بيديها، وكيفَ تنسفُ صروحَ الرَّغبة عَلى ضواحِي رجلٍ بثغرِها!
نصبتُ ألغامِي في كلِّ زاويةٍ منها، جهورةً كانَت أم مجهريَّة، مكظومةً كانَت أم معلومَة، زائغةً كانَت أم سائغة، وعزفتُ عليها بطرقٍ شتَّى، فأطرَبتني بأجودِ الأنغام، تلوَّت أناملي عَلى أوتارِها المَشدودة كالكمان، ونقرت قبلاتِي ربوعها، كَأنَّها بينَ يديَّ بيانو أليق، ثمَّ اتَّخذتُ مِنها مزمارًا نفثتُ فيه رِجسَ جُنوني، نهبتُ رحيقَها بفَمي، فانسكب مِن خليَّتها شهدٌ شفَّافٌ، إدمانيّ كالسُّلاف، كأنينها الَّذي يتهيَّل مِن جُرفِها بغزارة، وعَلى سَفحي يتكتَّل استهواءً!
ماجَت المُلاءة، وناجَت نظراتُها رَحمتِي لتنزِل عليها. انحَنيت صوبَ أذُنها وبينَما أطرُق بابَها الموصَد بخفَّة، عَلى وشكِ أن أسحَق أقفالَ العفَّة فيه، همَست.
«توخَّي الهُدوء، فالجُدران صريحَة».
هلاوز خفافيش 😍😳
فصل خريفي ليلي والأهم أنو أحمر 😂😂 في مطر عندنا والأجواء كتير مناسبه لهيك كتابات أخيرا خلصنا من الصيف 👏
أشكركم على تفاعلكم بالفصل الماضي أحس فراشات زمان عن هيك إقبال 😭😭 التعليقات كانت نارية أكثر من المقطع الديرتي 😂 فديت يلي يفهمو إيحاءاتي فخورة فيكم 😎
أخيرا بيكهيون وأرلين صنعوا المجد 😭😭 أنو كان واضح الليلة ما رح تمر على خير حاتى اني لقيت أكثر من تعليق فيه ليلة حمراء وانصدمت لايك كيف حزرتو عنوان الفصل الجديد 😂
شو رأيكم بالفصل!
أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
-حبيت مقطع لما ضحكت عليه على أساس تطعمو وطريقة انتقامو منها كيف مسك رقبتها وأخذ اللقمة من فمها إيفان هوووت 😭😭😭
بيكهيون!
-ليش كل حركاتو سكشي حتّى لما ما يعمل شي سكشي 🌚 حركة السيجارة 😭 لتكونو فكرتو رح يطفيها تحت باطها 😂
أرلين!
-نحتفظ بملابسنا 😂😂😂 يجوز فيها القتل بس نرحمها لأنها لطيفة
كيف تكون آراءهم بخصوص ليلتهم صباحا!
هل يندموا أم بيكونو سمنة على عسل!
هل بيكهيون يحتفظ بيها أم ينهي العلاقة!
توقعاتكم للفصل الجاي!
دمتم في رعاية الله وحفظه 🍁
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro