المنارة
خارت قوانا في معركتنا ضد اليأس الذي نجح في غزل خيوطه المميتة في نفوس أغلب البحارة وبالأخص من تعد هذه الرحلة الأولى لهم كشخصي ، و باتت الروح المعنوية في الحضيض فلقد مضى على أبحارنا فوق أمواج المحيط الأطلسي العاتيه ما يناهز الشهرين.
تقوقع قبطان السفينة خلف عجلة القيادة يصارع لينجو بنا من هذه الامواج الغاضبة والتي لا ترحم و تلطمنا بعيداً بضربات متتالية وكأن ثار قديم بيننا ، أعلنت حالة أستنفار قصوى وبات جميع من على ظهر السفينة يساعدون لنستطيع تجاوز الازمة والنجاة ، وما جعل الأمر أكثر أرهاقاً لأعصابنا تلك الظلمة التي أبتلعتنا بجوفها في ليلة تكالبت فيها كل عناصر الطبيعة ضدنا،
العاصفة تزداد بطشاً و أجسادنا التي لا تكسوها غير قطع ثياب خفيفة باتت ترتعش و برودة الجو تلفح بشرتنا العارية متلذذه بضعفنا أمام جبروتها ، رأيت الجميع يبتهلون بالدعاء بمختلف أديانهم لننجوا من هذه المحنة،
الوضع كان على أشده مع مساعدي أدغار وهو يردد أسماء أخوته الذين تركهم خلفه في الديار،
مضت ساعات الليل بطيئة مستنزفه قدرتي على الاحتمال و لم أشعر إلا بجسدي يغدو أثقل بفعل النعاس الذي تسلل لأجفاني حيث خارت قوتي ولم يقدر جسدي على التحمل و بات الواقع كابوس خانق فأغرتني أذرع اللاوعي و سحبني لأحضانه.
"سباستيان، أستيقظ"
أستيقظت على هز أدغار لجسدي بعنف و صياحه بأسمي، فركت عيني و دحرجتُ عدستي لأستكشف محيط بصري،
"لقد نجونا "
الابتسامات المرسومة على تلك الوجوه التي كادت تفارق الحياة ليلة الأمس ،سكنت ندوب روحي و حفزت جسدي للنهض فيبدو أن الحياة أعطتنا فرصة ثانية،
ترجلت برفقة أدغار متجهين لمقصورتنا عبرنا بالقرب من غرفة القيادة فلمحت القبضان وهو يدخن سيجارته بأستمتاع، غريب ٲمرنا نحن البشر لنا قدرة خارقة على التخطي و التجاوز فالجميع قد عادوا لمزاولة حياتهم العادية و كأن ليلة الأمس قد بقيت في ذاكرتي فقط،
أخذت حماماً منعشاً ونفضت عني كل ما علق بذاكرتي بيد أنه يأبى مفارقتي، بدلت ملابسي لبذلة بلون أزرق قاتم و سرحت خصلاتي الشقراء و وقفت أمام المرآة راضي كل الرضى لرؤية أنعكاسي على المرآة و لفت انتباهي ذلك السود المخيم حول عدستي الرمادية المائلة لزرقة، هذه الهالات نتيجة لسهري طوال الليالي الماضية على مدى شهرين أستمع لقصص البحارة ، وٲدونها.
أستقر قرص الشمس في منتصف السماء حين صرخ أحد البحارة
"أرى جزيزة، أرى جزيزة "
تكدست جموع غفيرة على سطح السفينة يهللون سعداء، تفرقوا ليفسحوا مجالاً للقبطان و طاقمة، أخذ يرصد بمنظارة ليتحدث بنبرة واثقة وصوت عالي لا تشوبه شائبة
"سنتوقف لليلة على هذه الجزيرة، فقد بدأ الطعام ينفذ منا و كذلك لأخذ قسط من الراحة كما يمكنكم أن تتسوقوا، و سنبحر من جديد غداً "
عانقني أدغار وهو يكاد يحلق بأجنحة من السعادة، رمقته بنظرة حادة فبتعد عني و نبس
"هيا سباستيان ، هي فرصة لن تتكرر "
أجبته محطماً بهجته ،
" لا رغبة لي في أستكشاف مثل هذه الجزر الصغيرة لذا سوف أستغل كون الجميع سيغادر و سأنعم بنومه هانئة بعيداً عن الضوضاء"
علت وجهه بعض أمارات الامتعاض صرخ من بين أسنانه
"أتقايض فرصة كهذه بالنوم، أيعقل"
تنهدت بعمق وقد بدأ الاستياء يلفني بسبب كل تلك الاصوات الصادرة من البحارة وهم يستعدون لمغادرة السفينة،تحدثت لانهي هذا الحوار الذي بدأ يزعجني
" يمكنك أن ترافقهم "
"حقاً"
أومأت له برأسي الايجاب فأقترب مني ليعانقي ثم توقف على بعد خطوة مني قبل أن أبعده فأدغار لم يكمل بعد عامه السابع عشر، فتى يافع التزامات الحياة أجبرته ليعمل ضمن طاقم خدم القصر الملكي، لذا أحيانا أحاول أن أكون أقل حده معه، مررت يدي على مؤخرة رأسه و أخرجت من جيبي بضع قطع ذهبية و أعطيتها له، فغر فاهه وكادت عيونه تخرج من محجرها،
"شكرا لك ،شكرا لك"
ابتسمته له وعدت أدراجي نحو المقصورة وقلت مودعاً
"أستمتع و أشتري لك ولأخوتك بعض الاغراض"
هرول أدغار ليلحق بمجموعة من البحارة أعمارهم قريبه منه ليتجول برفقتهم، راقبته إلى أن تلاشى من مجال رؤيتي وعندها أنسحبت لمضجعي، لم تغب الشمس بعد لذا حملت كتابي و جليسي لليلة، هو كتاب فانتازيا يتحدث عن بعض الكائنات الغريبة والتي لطالما أشعلت فضولي لمعرفة المزيد عنها، قضيت ليلتي على ذات روتين اليومي ولم يغمض لي جفن قبل الثانية صباحاً .
أرسلت الشمس أشعتها كبداية ليوم جديد خرجت لأجد أن بعض البحارة قد عادوا لسفينة، أعلن مساعد القبضان أن السفينة ستقلع بعد ثلاث ساعات أي بعد الافطار ،
الوقت المتبقي بدأ ينفذ و وقت الابحار قد حان وأدغار لم يعود، وقفت عند المدخل أبحث عنه بين الوجوه لكنه لم يكن بينها،
" أتبحث عن "
سألني فتى صغير فرمقته بنظرة خاطفة و أدرت رأسي أكمل بحثي ليهز تلابيب ثوبي ويردف
"لقد رأيت ذلك الفتى الذي يتبعك دائما"
أنحنيت لأصل لمستواه وسألته أن يكمل فقد استطاع جذب انتباهي
"لقد لمحته يكبل بالأصفاد ويسحب بواسطة بعض الرجال "
............
ملامح الطفل جادة و نبرته لا توحي بأنه يكذب بيد أنه أدغار هو ليس بفتى مشاكس أو متصيد للمشاكل، سنبحر في أي وقت ويبدو من كلام الفتى أن أدغار لن ينضم لنا سريعاً،
"أستعدوا سنبحر بعد عشر دقائق"
قذف القبضان جملته بعلو صوته لينفجر رأسي بخيارات متضاربة، حيناً يحثني عقلي لأتجاهل كل هذا و أعود لمقصورتي وحيناً تتشكل صورة مربيتي السيدة أليزابيث والدة أدغار وأخر كلماتها التي ترن في رأسي
.
.
.
"سباستيان، هذه الرحلة ستخلق الكثير من المشاكل حين يعلم والدك عنها "
"حينها سأكون في عرض البحر ولن يقدر على منعي"
حينها نطقت بجملتها المؤلمة
" كونكَ ولي عهده فهذا سيشفع لكَ مهما فعلت، لكن أمثالنا و عزيزي أدغار نكون دائما ضحايا معركة الابن ووالده "
رغما كونها تعلم ٲنني ٲفعل هذا لٲجل تؤامي،
..
.
.
.
لطالما خشيت على أبنها ، لذا فكرة أن أعود بدونه أضمحلت و تضائلت لتتبخر تماماً أمام كل ذكرياتي مع مربيتي بيث فهي شخص لا أريد أن أخذله، دلفت للمقصورة جمعت بعض أغراضي الشخصية الضرورية و كتاب مذكراتي الذي أدون فيه تفاصيل رحلتي و كتاب العجائب الذي ٲحتاجه في بحثي و وضعتهم جميعاً في حافظة جلدية، وبقلب دامي وخطى ثقيلة غادرت السفينة،
وقفت على الممر الخشبي القديم لمرفأ الجزيزة وقلبي يتشظى لرؤية السفينة تغادر من دوني،
"أدغار سأقتلك يا فتى"
قلتها ناقماً فبسببه سنعلق في هذه الجزيزة لأمد غير معلوم وسوف تطول معاناة سينيثيا ٲكثر ، خطوتي الأولى هي أيجاده وبعدها سوف أرى ما سأفعله به .
باتت كل محاولاتي في التركيز في عملية بحثي عن أدغار و شأنه بالفشل ٲمام كل هذه المغريات البصرية و السمعية التي تجبرك لصب كل تركيزك عليها، قادتني خطواتي لتاجر في منتصف عقده الرابع على ما يبدو يبيع بعض القطع الأثرية و أواني خزف قديمة و الات موسيقية،
آسرني ناي فضي منقوش عليه بالذهبي و تصميمه أية من الجمال،
"كم ثمن هذا"
أبتهج وجه التاجر و رفعه لي
"فقط ثلاثة ماركات سيدي "
تفحصت نقوشه بيدي وقربته من فاهي لتجربته لتمتد ذراع الفتى وتمنعني وجذبه من قبضتي بعنف،
" سيدي لا أرجوك"
طالعته بنظرات أستهجان ونبست بحدة
"هل تريد أن تبيعني ألة بها عطب، كيف تريد أن أشتري شئ دون تجربته ثم ما هذا السلوك الذي تعامل به زبائنك "
ما حيرني هي تعابير وجهه المائلة للخوف أكثر من كونها مكر فقد أردف بنبرة مهزوزة وفكه يرتعش
"كل هذه الأغراض التي بحوزتي هي من أرث مملكة الظلام و جميعها ملعونة "
أنفجرت ضاحكاً و أشفقت على حال هذا المسكين ، يبدو أن العطب الحقيقي به هو ،
"هل تريدني أن أصدق أنك هنا لتبيع قطع ملعونة بل و الأدهى أنكَ تخبر زبائنكَ بهذا "
لم يرمش التاجر أو يحرك ساكنا بل نبس بنبرته ذاتها
" هي لعنتي منذ نعومة أظافري و عقاب أدفعه ثمنه إلى الان كون نفسي قد سولت لي أن أسرق من مملكة الظلام"
لفظ لعنة يؤلمني لتذكري لحالي لكن ضغطت على ذاتي ونطقت
"وفوق هذا هي أغراض مسروقة ، أحتفظ بها لك اذن " قلتها و أعطيته ظهري مغادر ليخاطبني بصوت أعلى
" لقد أرتبطت قدرك بهذا الناي و أنتهى أمرك، صدقني رضيت أم أبيت فأنتَ مالكه و سيجدك أينما ذهبت"
هو مخبول بلا شك ناي سيلحق بي أي مزحة سمجة هذه، لقد أضعت وقتي مع هذا المخبول و نسيت أمر أدغار على حسب رواية البحار الصغير فهو قد سجن لكن أين تحديداً، التمست في وجه واحد من المارة الوقار فسألته
"عذراً سيدي، هل يمكن أن تدلني أين يقبع السجن"
" أترى تلك المنارة، هي تمثل السجن ومنزل عمدة الجزيزة في ذات الوقت "
شكرته وتوجهت نحوها هي منارة يصل طولها لما يناهز الخمسين متر مبنية من الحجارة وفي أعلاها نافذة مفتوحة بدون نوافذ معلق عليها مصباح أنارة ضخم يصل بينها وبين المرفأ ممر خشبي طويل ،هذه المنارات تستخدم عادة لمساعدة السفن و ٲرشادها لكن يبدو أن عمدة هذه القرية قد أستغلها لأغراض شخصية دنيئة والأسوء أنه جعلها سجن،
ما أن بدأت أقترب حتى تقدم ثلاثة من الحراس الذين يرتدون قمصان بنيه و بنطال بيج و يحملون أسلحة بارود
"أنتَ تراجع قبل أن نطلق النار عليكَ"
ما هذا الاستقبال العدواني
"لدي صديق محبوس هنا"
" أبتعد يا رجل "
هم كالألات البشرية يردون كلمات محدودة محفوظة لهم، دفعني أحدهم بسلاحه من الخلف ليجبرني أن أتراجع
"يبدو أن لدينا زائر الليلة ،من يكون "
أنحنى الحراس تزامنا مع الصوت لألتفت لأرى هذه الشخصية المثيرة لشفقة فهو ٲشبه ببقايا كائن حي نصف ميت، فتى غادرته الحياة قبل أن يغادرها و أنطفئت زرقة عينيه فهدئت أمواجه، منظره رث رغم الثياب التي تبدو غالية وشعر ثلجي فوضوي فقد لمعانه ، الهالة المنبعثة منه هو مستذئب وقد ٲدرك هويتي ،
"سيد ويليام ، هو يدعي أن ذلك الفتى الذي قبضنا عليه ليلة أمس صديقه"
أنتفخت أوداجه وتجرع عدة جرعات من كأسه الذي يمسكه بقوة فتمسكه به أقوى من تمسكه بالحياة،
" صديق ذلك الفتى الذي تجرأ علي"
قبل أن أقرأ ملامحه أمرهم بنبرة حقودة
"أرموه معه في الزنزانة "
و جدت نفسي أكبل و أسحب قسرً نحو داخل المنارة.
....يتبع
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro