(9)
بقلم نهال عبد الواحد
-ماذا ستسمين ابنتك يا ترى؟
هكذا تساءل عمارة.
فسكتت قليلًا بتفكير ثم التمعت عيناها وقالت: سأسميها راحيل.
فزم حاجبيه بدهشة وقال: يبدو الاسم غريبًا، وإن كان هناك تشابه بينه وبين كلمة عربية بمعني التّرحال والتّنقل، كم يبدو المعنى العربي ملائمًا لكما!
فابتسمت وتابعت: هو اسم إحدى زوجتي نبي الله يعقوب وأم لنبي الله يوسف عليهما السلام، ومنذ أن سمعتُ بذلك الاسم وأنا قد أحببته كثيرًا.
- تقصدين أن يعقوب النبي وابنه كانا نبيين!
فأومأت برأسها فأكمل: مثل إبراهيم النبي وابنه إسماعيل عليهما السلام.
فأومأت برأسها قائلة: أجل، فإبراهيم الخليل كان متزوجًا من السّيدة سارة وكانت جميلة جدًا وأشبه النّساء بأمنا حواء، ولما دخلا أرض مصر خشى إبراهيم الخليل من ملكها الظّالم فقال أنه أخوها.
ولما راودها الملك الظّالم عن نفسها وحاول الاعتداء عليها دعت الله فعصمها منه، فأيقن الملك أنها مباركة وأهدى إليهما جاريته هاجر كخادمة لهما، لكن السّيدة سارة لم تكن تنجب فقد أوهبت جاريتها لإبراهيم النبي فاستولد منها إسماعيل عليه السلام.
وبعدها أنجبت السيدة سارة إسحق النبي والذي هو والد ليعقوب النبي.
فأومأ عمارة معقّبًا: إذن هو نبي ابن نبي ابن نبي!
فأومأت برأسها وأكملت: ذهب يعقوب النبي إلى خاله لابان بأرض حران وقد كان له ابنتين، الكبرى ليا والصّغرى راحيل وكانت الأجمل فأحبها وتقدّم لخطبتها، فوافق خاله بشرط أن يرعى أغنامه لسبع سنوات، ولما فعل زُفت إليه ليا بدلًا منها، فتفاجأ بها وذهب شاكيًا لخاله أن غدر به، فأخبره أنه لا ينبغي أن يزوج الأخت الصّغرى قبل الكبرى، فإن أراد الصّغرى فليعمل سبع سنوات أخرى ثم يزوجها له ففعل وتزوج راحيل.
وكانت ليا هي من تنجب له الأولاد ولم تنجب راحيل فوهبت له جاريتها فأنجب منها ففعلت أختها ليا مثلها ووهبت له جاريتها فأنجب منها أيضًا، حتى شاء الله أن تحمل وتلد له غلامًا حسنًا وأجمل ما يكون من الحسن فأسمته يوسف...
ثم تابعت حاكية قصة نبي الله يوسف حتى أصبح عزيز مصر وعاد إليه أبويه وإخوته وخرّوا له ساجدين، ثم شردت يوكابد وقد تبدّلت ملامحها للحزن فتساءل عمارة في تعجب:
- ما الخطب يا يوكابد؟
فتنهدت قائلة: تفكّرتُ تلك الحكاية فتأثّرتُ بها.
فأومأ برأسه وأكمل: فعلًا، فقد جاءته طعنة الغدر من أقرب النّاس إليه، من أخوته، كم هو مؤلم!
فأومأت برأسها نافية وتابعت: لم أعني هذا، دائمًا الله يختبر أنبياءه بأشد الابتلاءات، وقد ابتلى يوسف النبي في عِفّته فصبر وثبت واختار السّجن، فتراني أفكر في حياتي وأنا أُبتلى في عفتي على مدار السّنتَين المنصرمَتَين ولم أثبت بل سقطتُ مرات ومرات في تلك الرّذيلة.
- وضعك مختلف يا يوكابد؛ فأنتِ لم تكوني حرة نفسك يومًا، أي لم يكن باختيارِك بل وضعٌ قد فُرض عليكِ.
فأطالت النّظر إليه ثم قالت: لأول مرة أشعر بالرّاحة تجاه شخص، رغم كونه اليوم الأول لتعرّفنا، لكنك أول شخص يسألني عن نفسي عن حكايتي، أول شخص يهتم أن يسمع لي، والغريب أني أقصّ كل شيء وكأنك شخص ءألفه جيدًا!
سكت قليلًا بعد أن أشاح بوجهه عنها ثم قال: سعدتُ بالاستماع لقصّتك وأتمنى أن تقصّي عليّ كل يوم حكاية من علمكِ هذا.
- علمي!
قالتها بتهكم، ثم أكملت: هي فقط مجرد حكايات سمعتها بالمصادفة، لكني لم أتعلم أي شيء.
- لكنها حكاياتٍ عظيمة عالية الشّأن بحق!
فتنهّدت براحة وابتسمت وهمّت بالكلام لولا صراخ طفلتها فأشارت نحو الخيمة بسبابتها قائلة: إنها راحيل، أعتذر منك سيدي، لكني سأذهب إليها ولنا في الغد حديثٌ آخر.
قالت الأخيرة وقد نهضت واقفة ثم تابعت: عِمتَ مساءً سيدي.
- عِمتِ مساءً يوكابد.
فاتجهت مسرعة لداخل الخيمة فحملت طفلتها وألقمتها صدرها وقد انتابها شعورٌ جديد، شعورٌ من نوع خاص، لكنها سرعان ما غفت في سباتٍ عميق جوار طفلتها راحيل.
ظل عمارة يعبث بعصاه في الرمل حتى مضى وقتًا طويلًا ثم نهض واتجه لداخل الخيمة وقد وضع له بسطًا عند المدخل وعلّق آخر كحاجز بينه وبين يوكابد وابنتها ثم استلقى ممدًا على الأرض ظل يتقلب يمينًا ويسارًا ووجه يوكابد الجميل مرسومًا أمام عينَيه حتى أخيرًا سيطر عليه سلطان النّوم.
مرت الأيام وعمارة يستيقظ كل يوم فيأخذ أغنامه يرعاها ولا يعود إلا قُبيل غروب الشّمس، بينما يوكابد تقوم ببعض الأعمال المنزلية فترتب البسط وتنظّف الخيمة.
كانت الطّبيعة هادئة من حولها وقد ألِفت ذلك المكان بسرعة وأحبّته كأنه موطنها.
بدأت تستيقظ قبل عمارة وتحلب الماعز فتترك جزءًا من الحليب وتأخذ جزءًا فتصنع منه الجبن، كما بدأت تتسلق النخيل في النّهار وقت غياب عمارة فتقطع من أوراقه بقدر ما تستطيع فتصنع يدويًا بعض المصنوعات البسيطة، وعندما يجئ المساء يتناولان وجبتهما معًا وتجلس يوكابد لتقص عليه حكاية أخرى من حكايات الأنبياء والصّالحين التي تعرفها، فيجلس عمارة وينصت إليها بشغف.
مرت الأسابيع ولا زالت الأمور على وضعيتها إلا من مرور أحد القوافل أو المارة فيذبح عمارة أحد الأغنام وتقوم يوكابد بإشعال النار وطهوها من أجل أن يقريا الضيف وأحيانًا يصرّون على دفع ثمن الطّعام ويبتاعون بعضًا من تلك المصنوعات البسيطة التي كانت تصنعها يوكابد من زعف النّخيل، وسعد عمارة بذلك التّغيير في حياته.
وفي نفس تلك الفترة كانت الأمور على نفس وضعيتها في بيت عبد العُزّى، فأمامة لا زالت تتجبر على خدمها وتتفنن في كيفية إذلالهم خاصةً أسماء؛ لما بدر منها من ولائها ليوكابد وحتى لا تعطي لها فرصة أن تتحدث عن أي شيء بشأن يوكابد.
أما الزُّهير فلا زال ينام نهارًا ويستيقظ قبل أن ينتهي النّهار فيخرج للعبث واللهو والشّراب والبغايا حتى مطلع الفجر، لكنه لم ينسى يومًا يوكابد، كان يراها في وجه كل بغيٍّ يجالسها ومهما كان مخمورًا ينتبه فجأة أن من أمامه ليست يوكابد فتنتابه نوبة غضب شديد ويصبح أكثر شراسة فيفتك بمن أمامه، إن كانوا جلساءه فيتشاجر معهم أشد الشّجار وإن كانت إحدى الفتيات فيفتك بها كذئبٍ جامح ولن تقوى إحداهنّ على الاعتراض أو الشّكوى.
أما أسماء فكتمت حزنها على فراق صديقتها داخلها ولم تقوى حتى على إظهار ذلك الحزن، أو بالأحرى ليس لديها وقتًا لذلك؛ فأمامة تستعبدها في القيام بأعمالٍ شاقة وبمجرد أن ينتهي اليوم تسقط في بئر النّوم من شدة الإرهاق والتّعب، كان أملها في عودة عبد العُزّى؛ فقلبها يحدثها أن يوكابد لا زالت على قيد الحياة وأنها لم تبتعد كثيرًا عن ديارهم.
وبعدها بفترة وجيزة قد ذيع خبر وصول القافلة وقد عاد عبد العُزّى من رحلته التجارية لبلاد الشّام ودلف إلى البيت مسرعًا بشغف للقاء يوكابد دون أن يلتفت لأيهم باحثًا عنها ومناديًا عليها منذ أن وطأت قدماه البيت...
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro