(7)
بقلم نهال عبد الواحد
مع بداية الصّباح خرج من خيمته مرتديًا عمامته فوق رأسه مهنّدمًا عباءته البنية بهدوء، استنشق بعمق هواء الصّباح ثم سحب راحلته بعد أن ربّت عليها برفق ثم هشّ بعصاه على غنمه وسار بهم جميعًا في رحلة رعي جديدة.
سار بغنمه وراحلته حتى وصل إلى بعض الحشائش التي تحيط عين ماء جارية تحيط بها الصّخور، فترك الغنم يأكل منها وجلس على صخرةٍ عن مقربةٍ منهم يتابعهم بعينَيه مع راحلته تارة، وتارة أخرى يشرد في الطّبيعة من حوله.
لكنه فجأة سمع صوت بكاء وليد فالتفت برأسه يمينًا ويسارًا بتعجب فلم يسمع شيء فظنّ أنه يُخيّل إليه فتابع مراقبته للغنم والرّاحلة.
وبعد قليل سمع الصّوت يأتيه مجددًا، لكن هذه المرة بدا وكأن الهواء يحمله من مسافة فجذب راحلته وركبها واتجه نحو مصدر الصوت وكان يأتي من قلب الصّحراء.
وبعد أن سار بعض الوقت ولا زال يتلفت حوله ويتسمّع الصّوت الذي يتضح حينًا ويخفت حينًا حسب هبوب الهواء واتجاهه، ثم لمح عن بعد شيئًا ما تغطيه الرّمال لكن لا زال يظهر جزء منه.
هبط من فوق راحلته وترجّل نحو ذلك الشيء وقد بدا صوت الطّفل أكثر وضوحًا وفوجئ بما وجده!
وجد طفلة رضيعة تبكي ملقاة أرضًا تتشبث بها يد مغبرة تخرج من ذلك الشيء المغطى بالرّمال، فاقترب بتوجّسٍ وبدأ ينفض تلك الرّمال فظهرت أمامه امرأة شعثاء غبراء لا تظهر ملامح وجهها من الاتساخ.
مد يده بالقرب من أنفها يتفقد تنفسها فلم يدرك بالتّحديد إن كانت لا زالت تتنفس، فضغط على عنقها قليلًا يتفقد النّبض فشعر بنبض ضعيف فتنهد بأسى ثم اتجه نحو تلك الطّفلة التي تبكي بشدة.
كان ينظر نحوهما لا يدري ماذا يفعل لهما أيتركهما أم يأخذهما معه؟!
لكن صوت صراخ الوليدة المتتابع قد مزّق نياط قلبه فرَقَّ وعزم على إنقاذهما، فنهض واقفًا واتجه نحو راحلته فسحبها مقربًا لها نحوهما، ثم حمل تلك المرأة ووضعها فوق الراحلة باحتراس وقد كانت يدها الأخرى تمسك بسرة تبدو كسرة ملابسها.
ثم اتجه نحو تلك الوليدة الصارخة فحملها وبدأ يربت عليها ويهدهدها فحركت وجهها يمينًا ويسارًا فاتحةً فمها تتضور جوعًا باحثةً عن صدر أمها.
حملها وسار بالراحلة يسحبها حتى وصل إلى أغنامه فوضع الوليدة وأخذ قدرًا وحلب القليل من الحليب من إحدى الماعزات ثم خفف الحليب بالماء من سقائه واتجه نحو تلك الطفلة وحملها في حجره وجلس بها وأخذ يغمس إصبعه ويقطر داخل فمها فبدأت تلعق تلك القطرات المتساقطة، لكن يبدو الأمر صعبًا وقد بدأت الطّفلة تغضب بسبب بطء الرّجل ولا زالت تصيح، فهو يفعل أقصى ما لديه!
وبعد فترة هدأت الطّفلة ويبدو أنها قد شبعت أو ربما ملّت فهدهدها قليلًا حتى نامت فوضعها أرضًا جوار الصّخرة في ظلها.
ثم اتجه نحو المرأة وحاول تفقد حالتها، والتي تبدو هالكةً من عناء الطّريق أو ربما إصابة بضربة شمس أو لا زالت متأثرة بآلام المخاض؛ فتبدو الوليدة من حجمها وصراخها أنها حديثة الولادة كما تلك الدماء التي تقطر من بين ساقي المرأة وهي فوق الرّاحلة.
سار قليلًا واتجه نحو عين الماء القريبة وملأ إناء من الماء ثم اتجه نحو المرأة وبدأ يصب الماء فوق رأسها ويذهب ويجئ ويعيد الكرة محاولًا أن يقطر الماء داخل أذنيها.
وبعد عدة مرات حمل إناء الحليب المخفف بالماء الذي أعده ليطعم الوليدة لكنه أخطأ التقدير وزاد منه الكثير، واتجه نحو المرأة ورفع رأسها محاولًا أن يسقيها فانسكب بعضه على صدرها وملابسها.
لاحظ كأن عينها تنفرجان قليلًا ثم أغمضتهما وانتظمت أنفاسها، وبعد فترة حمل الطّفلة وسحب الرّاحلة وهشّ على الغنم ليعودون جميعًا إلى مكان خيمته.
وصل إلى الخيمة ودخل بالطفلة أولًا ووضعها في الفراش ثم خرج وحمل المرأة ووضعها جوار الطّفلة، ثم اتجه بغنمه وراحلته ليعيدهم مكانهم جوار الخيمة في مكانٍ قد أحاطه بألواحٍ من جذوع النّخل وربطه بين نخلتين كأنه حظيرة مسوّرة.
جلس عند مدخل خيمته يفكر في حكاية تلك المرأة وطفلتها وما مصيرهما ومدى صحة فعلته معهما؛ أن أحضرهما معه إلى خيمته! لكن قاطعه صوت بكاء الطّفلة فنهض متجهًا نحو الماعز ليحلب القليل من الحليب ويخففه بالماء ثم دخل الخيمة واتجه نحو الطّفلة فحملها وفعل معها مثلما فعل من قبل حتى هدأت وقد شبعت على أغلب ظنّه ثم غيّر لفافتها المتسخة بأخرى نظيفة.
بعدها اتجه نحو المرأة بما تبقّى من الحليب ورفع رأسها وحاول أن يسقيها مثلما فعل من قبل ثم تركها نائمة ولا زال يحمل تلك الطّفلة يهدهدها ويهزها ذاهبًا آيبًا بها ربما تنام.
حل المساء وقد حلب كمية كافية من حليب الماعز ويأخذ منه ويخففه كلما استيقظت الطّفلة وصرخت فيسقيها هي وأمها ثم يتجه إلى فراشٍ صغير قد افترشه لنفسه عند مدخل الخيمة.
ظلّ على حاله طوال الليل، ينام قليلًا ثم يستيقظ كلما صرخت الطّفلة يسقيها أو يغيّر لفّتها.
وجاء الصّباح وقد أصبح شديد الإرهاق فتابع نومه وتأخّر حتى استيقظ على صراخ تلك الطّفلة فسقاها هي وأمها ثم خرج بأغنامه وراحلته ليرعاهم حتى نهاية النّهار كما اعتاد.
لكنه اليوم جلس قلقًا ومشغول البال على تلك الطّفلة وأمها، ويفكر فيما يتوجّب عليه فعله عقب استيقاظ تلك المرأة.
فتحت عينَيها بعد بعض التّململ وهي تسمع صوت صراخ طفلتها، لكنها تزال غير واعية؛ فقد ظنّت أن كل ما مضى كان مجرد كابوسًا منذ تهديد أمامة وحتى سيرها وسط الصّحراء تعاني التّعب والخوف والجوع.
لكنها عاودت فتح عينَيها مرة أخرى ببعض الوعي لترى سقف خيمة قماشية بها فتحة صغيرة من السّقف ترى من خلالها السّماء فنهضت جالسة فجأة فشعرت ببعض الوجع والدّوار فتفقدت المكان بعينيها لتجد سرتها جوارها وبعض البسط المرتبة وصناديق أخرى، ثم انتبهت لصراخ طفلتها فأسرعت بحملها وضمها بحنان أمومي ثم ألقمتها صدرها وبدأت عيناها تنهمر بالدموع؛ لا تصدق نجاتهما حتى الآن بعد أن ظنّت هلاكهما في تلك الصّحراء الجرداء.
انتبهت لوجود إناء من الحليب فأمسكت به وقد كانت تشعر بالجوع بحق فاشتمته ثم شربته دفعة واحدة فأخذت تنسكب منه قطرات على صدرها وحجرها وعلى طفلتها.
وبعد أن أنهت رضاع طفلتها حملتها ثم هدهدتها ونهضت واقفة بها واتجهت نحو مدخل الخيمة، فخرجت فلم تجد أحدًا، لكنها وجدت إناء مغطى فنزعت غطاءه فوجدت به ماء، فأخذت منه بكوبٍ مجاور أرضًا وأخذت تشرب وتروي ظمأها ثم ملأته واتجهت نحو الداخل.
وضعت طفلتها أرضًا وبللت قطعة من القماش بالماء وأخذت تنظّف طفلتها وتمسح جسدها الصغير ثم غيرت لفافتها شديدة الاتساخ بأخرى كانت معها داخل سرتها.
ثم حملتها وهدهدتها مجددًا وهي تهزها حتى نامت فوضعتها في الفراش وغطتها.
وفجأة سمعت صوت خطوات يخالطها أصوات أغنام تقترب فتشبثت قدماها وتيبست مكانها مرتعبة، زاغت عيناها قليلًا ثم انحنت لتحمل ابنتها ثم تراجعت وعادت واقفة تتفقد ما يحدث أولًا.
وضعت يدها على فمها وتحركت بهدوء نحو مدخل الخيمة تتسمع تلك الخطوات ثم فتحت المدخل قليلًا لترى ما يحدث بالخارج، لكنها انتبهت فجأة إلى رائحتها والتي أقل ما يقال عنها أنها نتنة!
فتقلصت ملامحها باشمئزار وتقزز وكأنها قد نسيت الموقف وتخوفاتها للحظات، ثم انتبهت وهي تتسمع لكن عمّ الهدوء فجأة، أدركت أنه ربما أحد المارة.
فتحت ذلك المدخل ونظرت عبره ولا زالت بالداخل ثم خرجت أمام الخيمة وقد بدا الجو عصرًا وقد قاربت الشّمس من المغيب، كانت تتلفت بعينيها تتفقّد المكان ويتقاذف الهواء ملابسها وخصلات شعرها المتبعثرة وكان المكان من حولها لا يوحي بأي عمران؛ فأمامها صحراء متسعة إلا من جزء على مد البصر كأن فيه نبات أو حشائش مع عدة نخلات، ثم تلفتت نحو الجانب الآخر لتجد شخصٌ من ظهره يهشّ غنمه بين نخلتين ثم يغلق عليهم بألواح من خشب.
كانت تراقبه بعينَيها دون أن تتحرك من مكانها حتى انتهى والتفت عائدًا إلى الخيمة فانتبه إلى تلك الواقفة جوار الخيمة والتي لا تظهر ملامح وجهها من اتساخه.
بدأ يقترب بخطواتٍ متباطئة وفي يده عصاه التي كان يهش بها على غنمه، كان شابًّا في آخر عقده الثالث يظهر شعره الأسود من أسفل عمامته ولحيته سوداء خفيفة ووجهه أسمر لكنه وضّاء تبدو على ملامحه الطّيبة وحسن الخلق.
اقترب بخطواته حتى صار أمامها مباشرةً لكن غير قريب، فتنحنح قائلًا: مرحبًا، حمدًا لله على سلامتك!
فأومأت برأسها ببعض التّردد، فتابع: قبل أي شيء يمكنك الذّهاب للاغتسال من عينٍ جارية، ليست بعيدة عن هنا، يمكنك رؤيتها على مدّ البصر.
قال الأخيرة وهو يشير نحو مكان الزرع، فأومأت بعينَيها نحو الخيمة تعني ابنتها، فتابع: لا عليكِ، المكان أمان فلا تخافي ولا تقلقي وسأعود إليها أحرسها.
ثم تقدّم بضع خطوات وهو يشير إليها أن تتبعه وهو يقول: هيا اتبعيني سأرشدك الطّريق.
فسار أمامها وتبعته بعد أن أخذت من سرة ملابسها ثوبًا نظيفًا وخرجت من الخيمة وهي ترى بالفعل مكان ذلك الزرع وكلما سارت متقدمة أصبح المكان أكثر وضوحًا، لا تدري كيف آنست فجأة هذا المكان وقلت ريبتها، لكنها شردت في ذلك الصّوت الذي يرن في أذنيها منذ زمن يقص موقفًا مشابهًا مع اختلاف من عاشوا ذلك الموقف، فلا أي وجه للمقارنة فقط هو استحضار الموقف.
كان يقصّ عليها حكاية موسى نبي الله -عليه السلام- عندما سار مع إحدى الفتاتَين في أرض مدين بعد أن سقا لهما وتوارى إلى الظّل وجاءته إحداهما على استحياء ليذهب معها إلى أبيها، فكان يسير أمامها وجعلها تتبعه لألا يتكشف ثوبها أمامه بفعل السّير وحركة الهواء، وكانت ترشده الطّريق من خلفه بإلقاء حجارة نحو الاتجاه المراد يمينًا أو يسارًا؛ فلا تتحدث إليه ويسمع صوتها...
عادت من شرودها لتجده يناديها وقد وصلا وهو يشير إليها نحو عين الماء الجارية وفيها جزء محاط بالصّخور ينبع ماء عذب من وسط الصّخر، وقال: يمكنكِ الاغتسال هنا، الماء الآن في آخر النّهار يكون دافئًا، والمكان حولك مستترًا ومحاطًا بالصّخور .
فأومأت له بامتنان فتابع: سأذهب عائدًا الآن، المكان ليس بعيدًا يمكنك الانتهاء والعودة هكذا من نفس الطّريق، وحاولي الإسراع قبل أن يحل المساء.
قالها ثم تنحى عائدًا فتبعته ببصرها حتى ابتعد ثم دخلت خلف الصّخور واقتربت نحو ذلك المكان الذي يتدفق منه الماء فخلعت ملابسها وبدأت تصب الماء عليها وأخذت شيئًا يشبه الشعر، وكان جزء من أحد النباتات يعامل معاملة اللوفة ويستخدم في الاستحمام، ولمّا انتهت ارتدت ثوبًا آخر كان معها وغسلت ذلك المتسخ ثم خرجت من ذلك المكان.
جلست على صخرة قريبة وعلقت جوارها ثوبها المغسول وبدأت تمشط شعرها ثم جدّلته، أخذت تتلفت حولها وهي تتفقّد هذا المكان الرّائع وتستنشق رائحة الزّرع، لكنها بدأت تشعر بالبرد فأخذت ثوبها وسارت عائدة من ذلك الطريق الذي أشاره لها ذلك الرجل.
ورغم أن الشّمس قد غربت وبدأ الضّوء يتضآل إلا أنها كلما سارت ازدادت ملامح الخيمة وضوحًا خاصةً وقد كانت هناك نار مشتعلة أمام المدخل.
وصلت يوكابد إلى الخيمة تتفقد المكان بعينَيها فلم تجد أحد فدلفت إلى داخل الخيمة فوجدت الرّجل يحمل طفلتها ويتحرك ذهابًا وإيابًا ويتمتم مداعبًا لها فابتسمت يوكابد قليلًا.
انتبه الرّجل لقدوم يوكابد واقترب يمد يده إليها بطفلتها فاستوقفته ملامحها الجميلة للحظات؛ فقد كان الغبار والاتساخ مغطيًا ملامح وجهها.
أخذت يوكابد طفلتها وغادر الرّجل خارج الخيمة، جلست بها يوكابد ثم ألقمتها صدرها ترضعها وقد شردت مجددًا في كل ما حدث لها حتى الآن، وبدأت تفكر لأين ستأخذها أقدارها؟ وترى ما ملامح ذلك القادم؟
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro