(6)
بقلم نهال عبد الواحد
ظلت يوكابد تطوي الأرض مهرولةً طوال الليل تضم وليدتها وتحمل سرة ملابسها ترتعب أن يلتمسها أحدهم فيكتشف هروبها ثم يتتبع أثرها بالإضافة لارتعابها من ذلك الليل البهيم الذي لا يُرى منه أي ملامح، حتى تنفّس الصّبح بنوره وبدأ يملأ الكون، ومع أول ساعات النّهار كانت قد ابتعدت كليًا عن تلك الدّيار التي لا تعرف لها اسمًا مثلما لا تعرف ماهية وجهتها.
كانت تتلفت خلفها فلا ترى أي ديار ولا أي ملامح للحياة من أي اتجاه وقد صارت وسط الصحراء.
تابعت سيرها مجاورة لسفح أحد الجبال ليس لشيءٍ إلا لتستظل بظله عن شمس الصحراء المحرقة وكلما صرخت طفلتها جلست إلى جانب الطريق وأرضعتها ثم أخرجت ذلك السقاء تشرب القليل من الماء مع تناول بعض التّمرات ثم تحمل طفلتها وأشياءها وتنهض لتكمل الطّريق.
عادت أمامة إلى البيت وظلت في حجرتها حتى استيقظ ابنها وسمعت صوت صياحه فابتسمت بانتصار حتى داهم حجرتها وتساءل في صياح: أين ذهبت يوكابد؟
فتململت أمامة في جلستها ثم تنهدت وأجابت بتبلد: هكذا هي تحيتك لأمك! هكذا تقتحم حجرتها!
ثم اخفضت رأسها تتصنع القهر، لكنه صاح فيها: أماه! لا طاقة لي بهذه المهاترات! والآن أخبريني وفورًا ما الخطب بالضّبط؟!
فتنهدت وتابعت: لم يحدث خطبٌ جلل بُني؛ كل ما هنالك أن تلك اللعينة قد انقطعت أنفاسها أثناء مخاضها وأخيرًا حلت عليها لعنة الآلهة ورحلت عنا بل رحلت عن الدّنيا للأبد.
قالت الأخيرة وهي تزفر براحة، فجحظت عينا الزُّهير وتابع بغضب: ماذا تعني بانقطعت أنفاسها ورحلت عن الدنيا؟ هل تقصدين أنها ماتت؟!
فأومأت برأسها بسعادة وأكملت: أجل بُني، وأخيرًا قد استراحت، ولأنها أنجبت أنثى فأمرت بدفنها مع أمها؛ ففي جميع الأحوال نحن لن نقبل الإناث أبدًا في حياة أمهاتهنّ فما بالك إن رحلن عن الحياة!
وجم الزُّهير للحظات كأنما غاب عن الوعي لحظيًّا ثم تابع مكررًا: هل قلتِ الآن أنها قد ماتت؟!
فأومأت برأسها فتساءل: ومن الذي حملها وتولى دفنها؟ أم ستخبريني أنكِ من فعلتِ هذا وحدك؟!
فضحكت منه وقالت: بالطّبع لا بُني، قد أرسلت لخالك في الصّباح الباكر فأرسل من رجاله من أخذهما ودفنهما بعيدًا عن ديارنا.
ثم التفتت نحو ذلك الصّنم الذي أمامها وأكملت وهي تنحني إليه وتضم كفيها بعضهما ببعض: باركتك الآلهة أخي الغالي! باركك هُبل الأكبر يا صخر!
وجم الزُّهير مرة أخرى ثم تابع تساؤلاته: وأين دُفنت؟
- في أي خرابة في الصّحراء أو خلف الجبل لا يهم ولم أسأل عن مكانها من الأساس، هل تنتظر أن ندفنها وسط الأشراف وعليّة القوم؟! إنها مجرد جارية باغية لا تليق بنا، وأخيرًا قد ذهبت إلى الجحيم!
قالت الأخيرة وتنهّدت بسعادة، فضيق عينَيه وتساءل بشك: وما الذي يجعل خالي يوافقك وينفذ ما طلبتيه؟!
-فعل ذلك مقابل زواجك من ابنته مُليكة.
فجحظت عيناه وصاح بصدمة: مُليكة! ها قد نفّذتِ ما تريديه!
- أجل، وقُضي الأمر وليس أمامك إلا السّمع والطّاعة.
فكوّر كفه بقوة ونبس من بين أسنانه متذمرًا للغاية: اللعنة على اتفاقاتك يا أمّاه! اللعنة عليكم جميعًا...
أخذ يصيح مكررًا وهو يغادر الحجرة غاضبًا بينما ارتفعت قهقهات أمّه.
كانت أسماء منذ أن استيقظت وقد تفاجأت بعدم تواجد يوكابد وقد قُبض قلبها، وأخذت تبحث عنها في كل مكان حتى يئست وعندما عادت استرقت السّمع إلى حديث أمامة مع ابنها ولما غادر البيت غاضبًا دلفت مستأذنة إلى سيدتها.
فرفعت أمامة عينَيها ونظرت إليها تطلق منهما الشّرر ثم تساءلت بتهكم: أين كنتِ أيتها اللعينة؟ فلم أراكِ البتة منذ الصّباح الباكر!
فأجابت في حنق: خرجتُ أبحث عن يوكابد.
ثم قالت بلهجة اتهام: ماذا فعلتِ بها سيدتي؟!
فرمقتها أمامة وهبت واقفة وصاحت فيها: كيف تجرُئين أن تتحدثي معي بهذه اللهجة وتتهميني هذا الاتهام؟!
- قد سمعتُ حديثك إلى سيدي الزُّهير، وأنتِ تعلمين جيدًا أن يوكابد لم تنقطع أنفاسها في مخاضها، و قد أنجبت طفلتها وهي بصحة جيدة، فماذا حدث لها يا تُرى؟!
فصاحت فيها أمامة: لا شأن لكِ بما حدث، فقط سترددين ما قُلته، إنها فارقت الحياة في مخاضها ودُفنت معها وليدتها.
- وأنا أرغب في الاطمئنان عليها.
- وأنا سيدتك وآمرك فلتنفّذي فورًا!
- أعتذر منكِ سيدتي لكن...
فقاطعتها أمامة بغضب شديد: كأنك لم تسمعي ما أمرتُكِ به.
ثم التفتت بعينها نحو الجدار المجاور فأمسكت بالسّيف المعلق عليه وأشهرته في وجهها، فانتفضت أسماء وأخذت تتراجع في خطواتها بخوفٍ شديد للخلف وهي ترتجف، بينما تتقدم نحوها أمامة وعيناها تجحظان في وجهها حتى اصطدمت أسماء بظهرها في الجدار الذي خلفها وزادت ارتعادة جسدها وأيقنت أنها هالكة لا محالة.
التقطت أنفاسها بسرعة لكن أمامة رفعت السيف ووضعت حافته المدببة على عنقها ونبست من بين أسنانها مهددة: احفظي ما سأقوله جيدًا ولا ترددي غيره ولا حتى بمنامك، يوكابد فارقت الحياة في مخاضها وأنجبت أنثى ودُفنت معها، هذا ما ستقوليه ليس إلا! وإياك بقول شيء آخر وإلا فصلتُ رأسك هذه عن جسدك، بالطبع تعلمين أني لا أثرثر بالحديث وأستطيع فعل ذلك دون أن يطرف لي جفن.
كان كلامها يخرج منها كفحيح الأفاعي وقد غُرزت حافة السيف بالفعل في رقبة أسماء وتسببت في جرحها وبدأت دماءها تنزف، بالطّبع لم يكن أمامها سوى إلا أن تومئ موافقة ودموعها تنهمر منها من شدة الخوف والألم، فنزعت منها أمامة ذلك السّيف الذي كادت تغرسه في عنقها، بينما هرولت أسماء مرتعبة خارج الحجرة وتمسك عنقها النازفة من أثر ذلك الجرح.
أما يوكابد فلا زالت تسير في الصّحراء بتعبٍ تحاذي سفح الجبال حتى عسعس الليل ولا تعلم أين هي الآن ولا ما آخر ذلك الطّريق وترى هل سيتحقق لها وطفلتها النّجاة!
جلست في ممرٍ ضيق بين الجبال تلتقط أنفاسها وتستريح من عناء السير؛ فمنذ ليلة الأمس وهي تسير على قدميها حتى كلّت من التعب بالإضافة لكونها نفساء.
ضمت إليها طفلتها ترضعها وهي تنظر إلى السّماء وقد اختضبت بحمرة المغيب، كانت تلعن نفسها وحماقتها؛ أن تركت البيت وهربت؛ فإن كانت في جميع الأحوال هالكة فأقلّها كانت ستتنعم عدة أسابيع داخل البيت بدلًا من هذا العناء المميت الذي لا نهاية له إلا هلاكها هي وطفلتها بعد رحلة عذاب.
وبينما تراودها تلك الأفكار حتى غفت في مكانها من شدة التعب ولم تعي لنفسها إلا عندما شعرت بحر النّهار مع صراخ طفلتها فهبت مزعورة من نومها لا تصدق أنها قد باتت ليلتها في ذلك العراء بل وأصبحتا ولا تزالا على قيد الحياة دون مهاجمة حيوان مفترس أو إحدى دواب الأرض أو ربما قاطع طريق!
وبعد أن أرضعت طفلتها وارتشفت بعض الماء والتقطت بعض التمرات نهضت تتابع سيرها إلى المجهول.
ومرّ يومٌ آخر وقد سقطت في سباتها مثلما حدث ليلة أمس، لكن اليوم قد انتهت تلك الجبال التي كانت تسير بمحاذاة سفحها تستظل بظلها، كما نفذ زادها وسقائها!
صارت تسير وسط الصحراء في مساحات شاسعة فضاء من كل اتجاه تلفحها الشّمس مباشرةً، وقد نال التّعب منها وبلغ الجهد مبلغه.
بالإضافة إلى تعب النّفاس الذي لم يعد لها طاقة على تحمّله، ولا تلك الدّماء التي تشعر بها تنزف من بين ساقيها طوال سيرها، وقد تقطّع نعالها أيضًا وتشققت قدميها من طول السير، ولم يبقى على تمام هلاكها إلا القليل.
وبعد فترة لمحت نباتات نابتة لا تعرف ماهيتها، فاقتربت بلا أي تفكير وبدأت تقطف أوراقها وتمسحها في جلبابها المتسخ وتأكله كما هو، لم تبالي بمذاقه السيء ولا جفاف هذه الأوراق التي تشعر بها تجرح حلقها وهي تبتلعها بصعوبة، كل ما تريده أن تأكل أي شيء تسد به جوعها ويدرّ الحليب في صدرها لترضع طفلتها المسكينة.
ثم تابعت سيرها والذي لم يعد سيرًا بل كانت تنكفئ على ركبتيها من حينٍ لآخر محاولةً إحكام يدها عليها لألا تسقط من يدها كلما انكفأت ثم تجاهد نفسها وتنهض لتتابع السّير من جديد، حتى خارت مقاومتها وقواها واستسلمت لمثواها الأخير في تلك الصّحراء الجرداء التي لا ترى فيها زرعًا ولا ماء...
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro