Chào các bạn! Vì nhiều lý do từ nay Truyen2U chính thức đổi tên là Truyen247.Pro. Mong các bạn tiếp tục ủng hộ truy cập tên miền mới này nhé! Mãi yêu... ♥

(40) والأخير

بقلم نهال عبد الواحد

- جئتُ لأعرض عليكم أمرًا لا خيار فيه وإلا فسينتهي كل شيء!

هكذا أهدر عبد العُزّى وهو يقهقه بسخرية عندًا في زبيدة، فتساءل أوس بفرغ صبر: ترى ما هذا الأمر؟!

قالها ثم زفر بضيق، فتابع عبد العُزّى: وضعكم!

فضيق أوس عينيه وأومأ برأسه بعدم فهم، فأكمل: بوضوح هل ستستمرون في هذا الطّريق؟ أقصد دينكم الجديد!

فزفر أوس ثم قال: هذا الأمر ليس موضع للنّقاش من الأساس.

فصاح عبد العُزّى: بل هو هكذا! إنه سمعة العائلة والقبيلة بأسرها، ولن يقبل أحد ديانتكم هذه.

فاشتدت عينا راحيل بالغضب لكنها استدارت عنه ونظرت إلى زوجها الذي أردف: لا يهمنا إن قبل أحدهم أو لم يقبل؛ لا إكراه في الدّين قد تبيَّن الرشد من الغَي.

فضيق عبد العُزّى عينيه ثم تساءل: ماذا تعني إذن؟

فصاحت زبيدة: يقصد أن أمر الدّين هو شأننا نحن وليس غيرنا، لن نجبر أحدًا أن يصبح مثلنا، من أراد فمرحبًا به ومن أعرض فليس لنا من الأمر شيء، بوضوح لكم دينكم ولنا ديننا.

فقال عبد العُزّى: إذن هذا خياركم!

فأجاب أوس بجدية: أجل!

فتابع عبد العُزّى يرتسم على وجهه ابتسامة انتصار مريبة: إذن لا مكان لكم بيننا.

فأهدر أوس بصدمة: ماذا؟!

تابع عبد العُزّى: فلتهاجر أنت وهذين وحدكم...

قالها يشير بسبابته نحو عُمير وعمّار، وأكمل: دون أي شيء لا مال أو دواب، أما عن زوجك فهي ابنتي وستظل معي وأمك صارت ملكي.

فصاح أوس بغضب: ماذا؟! كأنّك فقدت عقلك!

وهنا نهضت راحيل وصاحت في وجهه: أنت لم تكن يومًا أبي لتتحكم في.

فصاح فيها عبد العُزّى: أتنكرين أبوتي يا لعينة!

فتهكمت قائلة: أبوة! إن الأب ليس من يقذف بنطفته داخل رحم الأم فحسب، إنما هو من يربي ويعلّم ويؤدّب ويصادق، وأنت لم تفعل أي شيء، فقط أردت التّخلص مني ودفني حية.

فسخر عبد العُزّى قائلًا: وها قد رأيتُ هذه التربية الحسنة!

فتابعت راحيل: أبي عمارة لم يربيني ويحسن تأديبي فحسب، لكن أيضًا جعل مني فتاة قوية لا تخشى في الحق لومة لائم، ولن تخضع لأحد، ولن تمنعني عن زوجي، فإن رحل فسأرحل معه.

فصاح أوس: عن أي رحيل وهجرة تتحدثين؟ هذا بيت أبي أجلس فيه وأتمتع بملكه، ولا شأن لك ولا حق لك من الأساس.

فقال عبد العُزّى: إذن سأطوف بين أهالي البلدة وأقلّب القوم عليكم، فتجدوهم فوق رؤوسكم ولن يتركوكم أحياء.

فنبست من بين أسنانها بغضبٍ شديد: يا لك من لعين!

فصاح عبد العُزّى مجددًا: إما تهاجروا تاركين كل شيء المال والنّساء، وإما يصبح عليكم الصّباح قتلى جميعكم.

فصاحت زبيدة بحدة: اللعنة عليك!

فابتسم لها باستفزاز وتابع: لا ينبغي لامرأة أن تسب رجلها.

فصاحت فيه: صه!  أنا لست امرأة إلا لعبادة، ولن أكون لك أبدًا ما حييت، ولو خُيّرت بينك وبين الموت فسأختار الموت بمنتهى الرضا.

فنهض واقفًا وقال: لا أحب المماطلة، لقد قلتُ ما عندي.

فسحبت راحيل سيفًا معلّقًا وشهرته بسرعة وهمّت أن تضرب به  عبد العُزّى فأسرع عمّار وأوس بإمساكها؛ يمنعاها قبل أن تضربه، فصاحت فيهما: إتركاني عليه سأضرب عنقه.

فصاح عمّار: إهدئي أختي، لا ينبغي عليكِ فعل هذا.

ثم التفت إلى عبد العُزّى ورفع سبابته في وجهه وتابع: إسمع يا هذا، تريدنا أن نهاجر من هذه البلدة، سنفعل لكن جميعنا معًا، أي معنا أختي راحيل وخالتي زبيدة، أما هذه الدّواب فلا شأن لك بها، فهي لأبي عمارة أحضرناها معنا وسنذهب بها، ووالله الذي لا إله غيره! إن تفوهت بكلمة أخرى فسأتركها تهجم عليك، وإن هجمت عليك فلن تضرب عنقك فحسب بل ستمثّل بجسدك، أنت لا تعلم قدراتها كما لم تعلم كم الغل الذي بداخلها نحوك، ولن يثأر منها أحد فهي ابنتك ، فما هو قولك؟!

فرمقه عبد العُزّى بغضب ثم قال: إذن لا يصبح عليكم الصّباح وأنتم في ديارنا.

قالها وأسرع خارج البيت، كانت راحيل تلتقط أنفاسها المتلاحقة من أثر انفعالها ثم أرخت كفها فسقط السّيف من يدها، فصاحت في أخيها: لماذا وافقته أن يطردنا؟!

فتنهد عمّار وقال: ليس هناك أي خيار.

فبكت زبيدة أشد البكاء وجلست تضرب فخذيها بقهر وقالت بصوت يخالطه البكاء: سيطردنا اللعين، نهجر موطننا وديارنا من أجل طمعه وحده، أين أنت يا عبادة؟ تركتنا ورحلت!

فصاح أوس بقهر: كفاكِ يا أماه! لماذا انقلَبت هكذا فوق رؤوسنا؟ لأين نذهب ونهجر ديارنا وأموالنا؟

فصاح عُمير بسعادة: إلى موطننا نجاور العين، إنه مكاننا!

فأومأت راحيل موافقة وهي تربت على كتف زوجها قائلة براحة: أجل يا أوس، نعود إلى مكان العين، قد اشتقته كثيرًا.

فتابع عمّار: لقد قلتُ له أن الدّواب لنا، إذن فلنصحب كل الأغنام والماشية معنا، والعين مكان مناسب للرّعي، سنرعاهم ونزرع بعض المحاصيل كما كنا نفعل في السّابق، ونعيش جميعنا معًا في أرضنا التي لن يطردنا منها أحد، كما أنه لا زال معي مبلغًا من المال يمكن أن نبدأ به في تجارة صغيرة.

فتابعت راحيل: أجل، خير القول ما قلته يا أخي الغالي.

ثم التفتت إلى زوجها المصدوم وقالت: هيا بنا الآن لنعد أنفسنا ونجمع أشياءنا قبل أن يعود إلينا في الصّباح.

فتنهّد بقلة حيلة ثم قال: لكنكِ حُبلى وسيكون السّفر شاقٌ عليكِ.

فربتت على كتفه برفق وأهدرت:  لا تقلق عليّ زوجي الحبيب.

وقبل أن ينطق بحرف تحركت بسعادة لتجمع أشياءهم وكذلك فعل عُمير وعمّار، كان الثلاثة أخوة يجمعون أشياءهم بسعادة تغمرهم؛ فسيعودون أخيرًا لموطنهم فقد وافق الأمر هواهم.

أما أوس فجلس يواسي أمه التي لم تكف عن بكائها المستمر.

بالفعل جمعوا أشياءهم وقد وجد أوس مبلغًا من المال فأخذه، وأيضًا فعلت أمه بالإضافة إلى حليها الذهبية، وبدؤا يتحركون جميعًا في منتصف الليل، كان أوس وأمه يتجولان بناظريهما في كل شبر في هذا المكان يتذكرون ذكرياتهما ويودعونها قبل الرّحيل الأبدي بلا عودة.

وما أن همّوا بالتّحرك حتى أسرعت نحوهم إحدى الخادمات، فالتفتت إليها زبيدة وتساءلت في دهشة: ماذا بكِ يا عاتكة؟

فأهدرت الخادمة: اصحبوني معكم؛ فلن أطيق العيش تحت إمرة سيدي عبد العُزّى.

فتنهد أوس وقال: لكننا مهاجرين إلى البادية بلا رجعة، أي حياة أصعب وأشد.

فأومأت وألحت قائلة: لا يهم، أي مكان معكم سيكون أهون من هنا.

فأشارت إليها زبيدة بالموافقة، وتحرّك الجميع متجهين خارج البلدة، حتى عندما بدأ النّهار يتنفس كانوا قد خرجوا جميعًا وابتعدوا عن بلدتهم.

ظلّوا في طريقهم يسيرون بتباطؤ فيسيرون فترة ثم يتوقفون للاستراحة، ظلوا في طريقهم عدة أيام.

وبعد أيام من السّفر والمشقة وصلوا أخيرًا إلى موطنهم جوار العين، كان أسرعهم هبوطًا من دوابهم عُمير وعمّار، بينما راحيل لا تستطيع الإسراع بسبب حملها.

كانت الخيمة الموجودة مهترأة وتبدو غير صالحة، لكن راحيل كانت تجول بعينيها في أرجاء المكان ثم تحركت بعينيها نحو مكان بعينه، كانت تتجه نحو مكان قبريّ يوكابد وعمارة، ثم تبعها أخواها.

وقفت أمام الحجرين المميز بهما مكان القبر وعينيها مسلطة على الرّمال التي حولها، جثت على ركبتيها بصعوبة لثقل حملها، ثم ملأت كفيها بتلك الرمال وقرّبتها من أنفها تتشممها ثم قبّلتها وبدأت تبكي أشد البكاء وارتفع نحيبها، وكذلك من خلفها أخويها ينتحبان.

ترك أوس ترتيب الأمتعة واتجه نحو زوجته فجلس جوارها وضمها إليه وهمس إليها: الأفضل لهما هو طلب الرّحمة والغفران ومجاورة ربٍّ راضٍ غير غضبان.

فتابعت يتعثر صوتها في حشرجتها: لقد اشتقتُ لهما كثيرًا.

- وها أنتِ صرتِ تجاوريهما، وقد عُدتِ لموطنك، مرتع طفولتك وصباكِ وأجمل ذكرياتك.

فكفكت دمعها بطرف كمها ثم قالت تتعثر في شهقاتها: بل أجمل ذكرياتي معك يا أوس، أجمل ذكرياتي كانت في بيتنا هناك، في حجرتنا، في الخلاء نتسابق ونتبارز، وسنصنع غيرها كثيرًا هنا، سنصنع الأجمل والأروع إن شاء الله.

فضمها إليه يحاول أن يطمئن قلبه، فلا زال قلبه مفتورًا على فراق بلدته، داره، ذكرياته وكل شيء، يشعر بالضّعف؛ فالرجل مهمًا كان يضعفه قلة ذي اليد، فنهض واقفًا وأشار إلى عمّار وعُمير وقال: هيا بنا نرتب الأمتعة ونعيد هذه الخيمة، لكن في البداية نتأكد من خلوها من العقارب ودواب الأرض قبل أن ينتهي النّهار.

وبالفعل ذهب ثلاثتهم وبدؤا يخرجون الأكلمة والحُصر الموجودة بأرضية الخيمة ثم يحفرون الأرض ويقلبوا رمالها، وبعدها قاموا بتغيير قماش الخيمة وأعادوا تلك الأكلمة مجددًا بعد أن نظّفتها راحيل وعاتكة.

وبعدها بدؤا في ترتيب الأمتعة ووضع حدود فاصلة داخل الخيمة ليكون هناك قسم لراحيل وأوس، وقسم لعمّار وعُمير، وقسم لزبيدة وخادمتها، ورتبوا الفرش والوسائد وصار كل شيء داخل الخيمة على ما يرام.

ثم تحرك الثلاثة أوس وعمّار وعُمير لإعادة صنع الحظيرة بعمل سور يحيط بها مثل السّابقة و وضعوا بها دوابهم وأغنامهم.

جلست عاتكة تحلب بعض الحليب، وكانت امرأة أربعينية في مثل عمر زبيدة ضئيلة الجسد لكنها شديدة التّحمل ومجتهدة في العمل دون تعب، بدأت تقدم الحليب مع بعض التمر الذي تسلق عُمير إحدى النّخلات وقطف منه ما يكفيهم.

جلسوا وأكلوا وشربوا وأوقدوا النّار مثل السّابق حتى جاء المساء وصلوا العشاء ودلف كل واحدٍ منهم في مكانه.

كان الأخوة الثلاثة في أسعد لحظاتهم؛ أن عادوا لموطنهم، في حين أن أوس وزبيدة لم يعتادوا بعد على العيش في البادية.

مرت أيام قد عاود فيها الثلاثة أخوة أنشطة حياتهم السّابقة من رعي وتنظيف الحظيرة وتسميد قطعة أرض للزراعة وكانت عاتكة تساعد راحيل في ذلك خاصةً كلما تقدمت أشهر حملها.

وبدأ أوس مشاركة أخويها في أعمال الرعي أو بيع وشراء بعض الأغنام أو الأكلمة التي كانت زبيدة تصنعها على النول الخشبي، عندما تمر عليهم قافلة ما فحينًا يبيعون ويبتاعون، وحينًا يقومون بالمبادلة، لكن راحيل كانت تشعر به أنه ليس على ما يرام بعد، فلم تعقب إلا بمزيد من إغداق المشاعر والحنان.

أما عبد العُزّى ففي اليوم التّالي قد جاء إلى دار أخيه فوجدها خاوية فمكث فيها هو وجواريه وباشر تجارة أخيه التي آلت إليه بسعادة تملأه نشوة الانتصار، لكن سرعان ما هجمت عليهم قبيلة مجاورة فحرقت البيوت وقتلت الرجال وسَبَت النّساء والأطفال، فهكذا كانت من عادة العرب في الجاهلية أن تغِير القبائل وتكثر الحروب والمنازعات بينهم، وتسلب بعضها بعضًا.

وكأن طرد أوس وآله من بلدته وهجرتهم من موطنهم إلى البادية هي اللطف في القضاء، بدلًا أن تُحرق دارهم وتُسبى أمه وزوجته، أو يُفقد الجميع قتلى مثل سائر أهل البلدة ومنهم عبد العُزّى، مجرد جثث قتلى ممثّل بها تتكاثر عليها الجوارح فتنهش لحومها العفنة.

كان أوس يسأل عن أخبار بلدته من الضيوف القادمين على الطريق أو بعض القوافل المارّة، فتفاجأ بالخبر، فتنهد براحة وحمد الله أن نجّاه هو وآله، وأن اقتصّ له من عمه دون أن يتحمّل دمه.

مضت الأيام وهاهي راحيل تقترب من شهرها الذي ستضع فيه، وذات يوم بينما كانت راحيل تجلس تدير الرّحا لتطحن الحنطة، وزبيدة تجلس كعادتها تنسج النول، أما عاتكة فتنتقي الأوراق الفاسدة من المزروعات التي زرعوها.

وكانت راحيل تشعر بتقلصات وآلام تهاجم أسفل بطنها فتتوقف بعض اللحظات ثم تعود تكمل عملها، وهاهو زوجها قد عاد بالأغنام وخلفه أخويها يهشان البقية.

وفجأة زاد الوجع كأشد ما يكون فصرخت راحيل بقوة صرخات متتابعة وهي تمسك بأسفل بطنها، فأسرع نحوها أوس يسندها لتدلف بداخل الخيمة ثم تبعتهما زبيدة وبعدها عاتكة، في حين ذهب عمّار وعُمير ليبيّتان الأغنام.

كانت راحيل تتألم بشدة وتتصبب عرقًا، فأيقنت المرأتان أنه المخاض، فأشارتا إلى أوس ليخرج، فتحرّك بتثاقل يجر قدمَيه.

ظل واقفًا عند مدخل الخيمة حينًا، وحينًا أخرى يذهب ويجئ من القلق، ثم يجلس هُنيهة يذكر ربه ويدعوه بسلامة الأم والوليد، ولا زال صراخ راحيل يملأ المكان فيتألم من أجلها، فكيف تتحمل كل هذا الوجع وهو لا يستطيع أن يخفف عنها أو يشاطرها؟

مر الوقت حتى فجأة سمع صوت بكاء الوليد، فتهللت أساريره وخرّ ساجدًا لله شكرًا، وعانقاه عمّار وعُمير مهنّئين.

ظل واقفًا ينتظر بالخارج وبدأ يملأه القلق؛ فالصّمت يعم المكان بالداخل ولم تخرج إحداهما تناديه أو تبشره فبدأ يدب الخوف بداخله وصار يصدح بصوته ينادي عليهم: يا راحيل! يا عاتكة! يا أمي! أريد الدّخول!

وبعد مرور فترة من الوقت خرجت عاتكة ممتعقة الوجه تحمل لفافة الوليد، فارتجف رعبًا وتساءل بلهفة: ما الخطب يا امرأة؟ أين زوجتي وابني؟

تلعثمت الخادمة قليلًا ثم تمتمت مترددة: إنّها أنثى.

فصاح فيها: أنثى!

ثم تساءل: وكيف حال راحيل؟

فأجابت: سيدتي راحيل بخير.

- إذن كيف حال ابنتي؟ ولأين أنتِ ذاهبةً بها؟!

فأجابت بحزن: كي أعطيها لك سيدي لتقوم بدفنها كما جرت العادة.

فصاح ضاربًا كفًّا بكف، ثم صاح فيها: لا إله إلا الله! أعطيني ابنتي يا امرأة.

فمدت يديها باللفافة وهي تبكي بحرقة فحملها أوس ونهرها: اللعنة عليكِ!

ثم دلف إلى داخل الخيمة فوجد أمه جالسةً تبكي هي الأخرى، بينما راحيل شاحبة للغاية ومنعدمة اللون، واجمة لا تحمل ملامحها أي تعابير.

بمجرد أن دلف أوس تحرّك مسرعًا نحو راحيل وانحنى جالسًا جوارها، ثم تساءل بلهفة: مم تشكين حبيبتي؟

فظلت واجمة ولم تعقب، فقبل جبهتها بعمق وبدأت تتحرك الصغيرة داخل اللفافة مع صوت بكاء ضعيف، فأهدر أوس: إنها تبكي، مؤكد أنها جائعة، خذيها والقميها صدرك حتى تشبع.

ثم ابتسم  وهو ينظر إلى وجه الصغيرة وأكمل: إنها تشبهك كثيرًا، نفس جمال أمها الغالية، نفس لون بشرتها ومؤكد نفس لون فيروزيتيها، عندما تفتحهما سأتأكد!

فالتفتت إليه تنظر له بضياع، فخبط بخفة على وجنتها وهمس: ماذا بكِ بحق الله؟!

فتحت فمها لتقول شيئًا لكن ارتجفت شفتاها ولم تعقب فقضمتهما ترتعشان بقهر، فضمها إليه أوس بحنان وتساءل: ماذا بكِ يا قلب أوس؟

ثم التفت إلى أمه وتساءل: ماذا حدث أماه؟ ما الخطب؟!

فأجابته وسط شهقاتها: ويحك! لماذا دلفت بالطفلة يا بني؟

فعكر حاجبيه وقال: وكيف ستتغذّى إذن؟ هل سأرضعها أنا مثلًا؟!

قال الأخيرة بسخرية، فتابعت الأم: لقد خرجت إليك عاتكة بها لتأخذها وتدفنها بعيدًا، لماذا دلفت بها لأمها وتقول ارضعيها وغذّيها؟!

فاتسعت حدقتا أوس بصدمة ثم صاح: آخذها وأدفنها حية! أرمي رزقًا أرسله الله إليّ! ماذا بكِ أماه؟! قد تركنا ملة قومٍ لا يؤمنون، وقتل الأبناء قد حرّمه الله، ولن أُغضب ربي من أجل كونها أنثى، ترى ماذا فيها؟ بل ما أجملها! أليس الرّازق بالأنثى هو الرّازق بالذّكر؟! إذن فما المشكلة؟!

ثم اقترب من راحيل ومد يديه بالطفلة الوليدة التي تبكي وقال: هيا زوجتي الغالية، أرضعي ابنتنا.

فتلألأت عيناها بعدم تصديق فضمها إليه ثم وضع الطّفلة بين ذراعيها، فحملتها وأخرجت صدرها وألقمته لها ببعض العناء؛ فلا زالت لم تعتاد الأمر بعد.

فأحاطها أوس بأحد ذراعيه وبيده الأخرى يمسح على رأس الوليدة ويقبل رأس طفلته من حينٍ لآخر.

فنهضت زبيدة وقالت وهي تكفكف دمها: بارك الله لكما فيها يا أوس! ورزقكم بالذّكور والإناث.

فأومأ لها برأسه بوجهٍ باش وقال: بارك الله فيكِ أماه!

ثم تساءل: لأين تذهبين؟

فقالت: سأعدّ الحساء لراحيل كي تشربه و تتغذّى.

ثم غادرت الخيمة، فظل يربت على راحيل ويعبث بتلك الصغيرة بسعادة، فرفعت عينيها إليه وأردفت: أشكرك أوس.

فزم حاجبيه بعدم فهم، فأكملت: أشكرك لاحتفاظك بابنتي.

فحدق فيها وقال بجدية: هل جننتِ غاليتي؟! من أدخل برأسك هذه السّخافات؟! لقد أسلمنا وآمنا بالله، ولا ينبغي لنا معصيته أبدًا، وإذا الموؤودةُ سُئلت بأي ذنبٍ قُتلت؟!

فتنهدت براحة وانحنت تمسك بكف الطفلة الصغير بطرف إصبعها وقربت شفتيها وقبلته، ثم تساءلت: ماذا سنسميها؟!

فقال: هيا قولي.

- كنتُ أرغب في تسميتها يوكابد مثل أمي رحمها الله! لكن الآن بعد نجاتها سأسميها ناجية...

- بل نجاة، هي النّجاة من عذاب الإله أن تركنا عادة الجاهلية واحتفظنا بها، وهي النّجاة بعد طول التّعب، أما النّاجية فهي أنتِ؛ قد نجوتِ من بطش أبيكِ أن يدفنكِ حية، من سفرة وسط الصّحراء المجدبة وكنتِ لا تزالين قطعة لحم حمراء حديثة الولادة، من تعذيب أخيكِ، من السّبي إن لم نترك تلك الدّيار ونهجرها.

ثم أسند برأسه على رأسها وابتسم قائلًا: ولنجعل اسم يوكابد لأختها القادمة.

فلكزته بخفة وقالت بغنج: إهدأ يا رجل، فلا زلتُ نفساء...

فصدع أصوات ضحكيهما في أرجاء المكان.

ومرت الأعوام ورُزقا بعد نجاة بعبادة، عمارة، عبد الله ثم يوكابد الصغيرة، ويأمل أوس أن تضع راحيل أنثى هذه المرة ويسميها زبيدة.

كان أوس وعمّار طوال هذه الأعوام يسافران من حينٍ لآخر من أجل التّجارة وأيضًا للسّفر إلى بلدة رسول الله والتي تغيرت بعد الهجرة، وصارت مدينة رسول الله، فيتعلمون ما استجد من تعاليم الدّين، ويتفقدان آخر الأخبار بين المسلمين والكفار...

وقد انضم إليهم عُمير بعد أن صار صبيًا يقارب الخامسة عشر عامًا، وظلت راحيل تنتظرهم وسط أبناءها وقد عوّدت نجاة وعبادة على رعي الأغنام والسّير معها حتى مكان العين والاعتناء بهم؛ فشهور حملها تتقدم وصارت تشعر بتعبٍ من حينٍ لآخر.

لكن هذه المرة تفاجأت بعودة زوجها وعُمير وعمّار، لكن ليسوا بمفردهم، بل معهم رهطٍ من القوم رجالًا ونساءً.

فقد كان هناك تاجرٌ بعينه قد اعتادوا التعامل معه منذ أعوام وقد تفقّد أخلاق عمّار وأعجب بها، فعرض عليه ابنته ليتزوجها فقبل عمّار وصحبها معه ومعها بضع أفراد من أهلها؛ يزفونها ويحملون أمتعتها.

فجهّز لهم أوس خيمة مجاورة وخاصة بالعروسين، وبدأ أهلها يرتبون أمتعة العروس وعمّار ينقل أمتعته إلى خيمته، بينما راحيل تتفقد عروس أخيها فاطمة وكانت فتاة هادئة الملامح وتبدو عليها الطّيبة، فأحسنت استقبالها وضيافة أهلها، ثم همست بداخلها: لقد تحقق كل ما تمنتيه يا أمي، بل وأكثر بكثير.

اقترب منها أوس يضمها إليه؛ فيشعر بتعبها كما أنه اشتاق إليها، فهمست له: لم نكتفي بالنّجاة من كل سوء، بل عمرّنا المكان كما ترِى وهل من مزيد!

فابتسم إليها وقال: أجل، وهنا يسكن بني عمارة الطّائفي.

ثم قال: بارك الله فيكِ وفي نجاة وفي أخوتها الحاضرين واللاحقين!

فضحكت بتألم ثم قالت: أتنتظر لاحقين!

فأومأ برأسه وتابع: سنظل ننجب إلى ماشاء الله، لا تخافي بعد الآن يا راحيل؛ فقد وصلنا بعد طول الأسفار إلى طريق النّجاة وها نحن نحيا جميعًا حياة النّجاة، ونأمل أن تلازمنا النّجاة حتى نلقى ربنا.

ثم قال بهيام: سأظل أحبك يا راحيل، وستظلين ساكنة قلبي نتشارك حياتنا في رضا الإله أبدًا ما حيينا.

ثم تابع بعشقٍ مفرط:

سَلا القلبَ عَمّا كان يهْوى ويطْلبُ
وأصبــحَ لا يشكـــو ولا يتعتـــبُ

صحا بعدَ سُكْرٍ وانتخى بعد ذِلَّةٍ
وقلب الذي يهوى العلـى يتقلّـبُ

إلـى كـمْ أُداري من تريـدُ مذلَّتـي
وأبذل جهدي في رضاها وتغضبُ

[عنترة بن شدّاد]

دائمًا النّجاة في قُرب الله، فإن أردتَ النّجاة من مصائب الزّمان فقط كن بالقرب من الرّامي، وإياك أن تيأس!  فمهما طالت الأسفار والمتاعب حتمًا سنصل إلى طريق النّجاة.

سعدت بحسن متابعتكم،
وإلى اللقاء في رواية أخرى إن شاء الله!

رمضان كريم 🌙 1441
وكل عام وأنتم بخير

Noonazad.  💕❤💕

Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro