(38)
بقلم نهال عبد الواحد
مر يوم بعد يوم وراحيل وعُمير في محبسهما لا زالا ينتظران قدوم أوس، ولم تكن تعاني بشدة من ذلك السّجن؛ فزبيدة كانت تدخل لهما الطّعام وتسمح لها بتبديل ملابسها وقتما تريد؛ حرصًا على صحة الجنين، هكذا تطلق حججها كلما عنّفها عبادة.
كان وجع راحيل ولا زال من بعاد الحبيب الذي طال، لم تظن يومًا أنها ستعاني من تلك المشاعر، بل كانت تنظر لأمها يوكابد أنها تبالغ في وهنها واشتياقها كلما ابتعد عمارة.
تساءلت داخلها متى ينتهي هذا الفراق وكأنها قد نسيَتْ الأمر الجلل الذي ينتظره، أحيانًا تثق بثباته وقوة إيمانه، وحينًا تشك في ضعفه أمام أبيه، وإن كان ليس ضعيفًا بطبعه، لكنها تنتظر رؤياه ولقاءه أيًا كان ما سيحدث، فقد هلكت روحها في بعاده، ومهما تظاهرت بالقوة والثبات فدمعها تبديه، ولسان حالها يقول أيها المعذّب الذي جُمعت فيك كل محاسن الخصال، فكأنك بالحُسن صورة يوسف وكأنها بالحزن مثل أبيه، ليتك تعود مسرعًا حرصًا على قلبها الذي تسكن وتقيم فيه.
وفي كل ليلة لم تكتحل العين بالنوم؛ ربما تجئ، وتسرح في فضائات التّمني ثم تفيق وبعدها تفتش عن ذكرياتهما.
كل ليلة تبيت دون أن يحويها مضجعٌ، ذلك الاشتياق قد جعلها كالثّوب المرقّع يقلبها وخزًا.
وأخيرًا جاء اليوم الموعود وعاد أوس كله شوق واشتياق لكلّ أهله، وإن كان اشتياقه إلى راحيل قد فاق كل الحدود.
دخل البيت فلم يجد أحدًا أمامه فلم يطيل في بحثه بل اتجه مباشرةً إلى حجرة عُمير بعد أن وجد حجرتهما فارغة.
دلف مهرولًا وخلفه عمّار فوجدها تجلس أرضًا يجاورها أخيها، وقد تفاجئا بمجيئهما.
انطلق أوس نحوها وعانقها بشدة وتعلّقت هي في عنقه؛ كانت بحاجة شديدة لهذا العناق، ربما تستعيد قوتها لتتمكن من الصّمود من ذلك المجهول.
ابتعد عنها قليلًا ولم يأبه لجلستهما هكذا، أطال النّظر في وجهها وقبّل كل إنشٍ فيه كأنه قد نسى أنهما ليسا وحدهما، مسّد على شعرها الطويل وفك قعصته فانسدل بنعومة على كتفيها وصدرها فقال بهيام:
غدائرها مستشزراتٍ إلى العلى
تضل العِقاص في مثنى ومرسل
( أمرؤ القيس)
[ الغديرة: خصلة الشعر، مستشزرة: ملفوفة بعضها على بعض]
ثم تلمّس أنفها وقال:
وأقنى كحد السيف يشرب قبلها
تخــال بينهمــا أقنـى بـه شمـــم
(معن ابن أوس)
[أقنى: أقنى الأنف أي تشبه الرمح في الإستقامة ]
ثم تلمّس ثغرها وقال:
بثغرٍ كمثل الأقحوان منــورّ
نقي الثنايا أشنب غير أثعل
( أمرؤ القيس)
[ أشنب: أبيض، غير أثعل: الأسنان غير المتراكبة فوق بعضها ]
ثم أمسك بيديها اللتان تستندان على صدره فقرّبها من شفتيه وقبّل باطنها وقال:
وإنها كمهاة الجو ناعمة
تدني النصيف بكفٍ غير موشوم
( عُبيد بن الأبرص)
[ النصيف: الغطاء يعني كم الثوب ]
ثم امسك عنقها برفق وقال:
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحشٍ
إذا هي نصّتــــه ولا بمعطّــــــــلٍ
( أمرؤ القيس)
[ الرئم: الظبي خالص البياض، ويقصد بجيد الرئم طولها.
ليس بفاحشٍ: لأنها مستترة ]
ثم مسّد على كتفيها وذراعيها هابطًا بيديه وقال:
تمشي وترفُلُ في الثيابِ كأنّها
غُصنٌ ترنّح في نقا رجراج
( عنترة)
[ ترفل: تزهو ]
لكن استوقفه فجأة اصطدام يده ببطنها المنتفخة! فأخفض بصره، اتسعت عيناه وجم هُنيهة، ثم اتسعت ابتسامته وضمها مجددًا، ثم التفت نحو عمّار وهو يربت على بطنها برفق ويهدر بسعادة مفرطة: إنها حُبلى! سأكون أبًا! وستكون خالًا، لهذا تبدي مختلفة وشاحبة اللون، لكن على أية حال أنتِ جميلة في كل حالاتك.
قال الأخيرة وهو يحتضن وجهها بكفيه، فانحنى نحوها عمّار وعانق أخته وقبّل رأسها وقال بسعادة: مباركٌ عليكِ غاليتي!
فأومأت برأسها مبتسمة بينما ارتفع صوت أوس مقهقهًا من فرط السّعادة، فربت عمّار على كتفه وقال بمزاح: حسبك يا أوس! كدت تفقد عقلك، هيا انهضا وادخل بها لتكمل تغزلّاتك الشعرية.
فأكمل أوس قهقهته، فتساءل عُمير: هل ذهبتم لرؤية نبي الله؟!
فأومأ له عمّار وأجاب بحماس: أجل، وقد استجدت أمورًا رائعات... رغم أنّنا لم نتمكّن من لقائه هذه المرة أيضًا...
قال الأخيرة ببعض الحزن في حين تساءلت راحيل بتعب: وماذا استجد ليرتسم الحماس والسّعادة على وجهك لهذه الدرجة؟
فتابع أوس: علمنا أنه في موسم الحج السابق قد جاء من أهل يثرب ستة أنفار، وقد التقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا ووعدوا رسول الله وقتها بإبلاغ رسالته في قومهم، ثم جاءوا هذا العام وقد صاروا اثنا عشر رجلًا، ثم التقوا برسول الله عند العقبة بمنى فبايعوه ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتون ببهتان يفترونه من بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف، فمن وفّى منهم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه.
ثم أكمل عمّار: وبعد أن تمّت البيعة وانتهى موسم الحج بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أحد أصحابه ويُدعى مصعب بن عُمير.
فقال أوس: هل تعلمون ما معنى هذا؟ إنه بداية النّصر وأعتقد أنه ستُتأسس دولة الإسلام وتبدأ من يثرب، لتكون منبع النّور الذي سيبث ضوءه في شتى بقاع الأرض، سينصر الله نبيه، وسيزيد عدد المسلمين، وسيعم الإسلام أرجاء الأرض... هكذا أملي.
فتابع عمّار: ونعم بالله يا أوس! الله عند ظننا به، وظننا به خير...
ثم أكمل بحماس: بالإضافة إلى عدد من الصُحف المخطوط فيها آيات القرآن الكريم، سنعلّمها لكما.
فهسهس له أوس بتوجس وهو يسكته بضربة خفيفة من يده وقال: اخفض صوتك يا عمّار، كأنك قد نسيت! سيُفتضح أمرنا!
فتقلّص وجه راحيل وبدأت تتلاشى ابتسامتها، بينما تيبس وجه عُمير، فتنهد عمّار وقال: ألم يأن لك أن تفصح يا أوس؟ أين حزنك وندمك الذي صرّحت لي به عندما رأيت من نشروا دين الله؟! ألم تخبرني كم تمنّيت لو نشرت دعوة الله ودخل الإسلام كل بيت هنا؟! وكم تتمنى حتى ولو يُسْلم والديك!
فأغمض أوس عينيه ثم تنهد بقلة حيلة ثم تساءل: أين والديّ؟ فلم ألمح أيهما منذ أن جئت!
فأومأت راحيل بعينها بينما لا زال عُمير متيبس الملامح، فزم حاجبيه ونظر بينهما في عدم فهم وهمّ بفتح فمه يتساءل لكن...
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro