(3)
بقلم نهال عبد الواحد
خرجت يوكابد ملثّمة الوجه بصحبة أسماء، لم تنتبه للطّريق فقط تسوقها قدماها، بالها مشغول، قلبها مهموم، وصدرها مشحون، كرهت نفسها وجمالها الذي هو سر بؤسها وشقاءها في هذه الحياة.
تخشى لدرجة الرعب، تُرى ما ملامح مستقبلها وحياتها الآتية؟ خاصةً وهي لا تطيق هذا المكان ولا هؤلاء المحيطين حولها، وتحديدًا من التحم قدره بقدرها رغمًا عنها وبلا أدنى قدرة للمقاومة، ترى لو أنجبت أنثى بحق ماذا يكون مصيرها؟! هل بالفعل سيقتلها أبوها ويدفنها حية تحت التّراب؟! أي قسوةٍ هذه؟!
سيطفح الكيل بتلك الفعلة حتمًا؛ أن بعد كل هذا التّعب والألم يقتل قطعةً منها بلا ذنب! الغريب أن حدسها يقودها أنها بالفعل ستضع أنثى!
تُرى ما الذي يدفعها لتحمل ذلك القرار وتنفيذه وهي في الأساس لا تقبله البتة! إنها نفس! كيف تجعلها تُقتل بغير نفس!
وما العجب في ذلك؟!
إن كان هو وعشيرته قومٌ بُهت يكفرون بالله الواحد ويشركون معه مجرد حجارة لا تنفع ولا تضر، يا إلهي أي عذابٍ هذا!
هكذا تحدث نفسها وتنظر للأعلى في تلك السّماء الصّافية وقد هدأ ضوء النّهار فهم في آخره، تحاول التّنفس بعمق بتلك النّسمات التي تلامس جانبيها وتعبث بثوبها ووشاحها، تناجي خالقها دون أن تعلم كيف تناجيه ولا كيف تدعوه! لكنه حتمًا يعلم ما في نفسها.
فجأة وجدت نفسها قد وصلت إلى خلف الجبل، لا تعرف كيف ولا متى مر الوقت! كل شيء مبهم مثل حياتها هذه، عديمة الملامح لا أمل فيها، فهي في الأخير مجرد أَمة تُباع وتُشترى، لكنها تطمع في كرم الإله الواحد وترغب أن يُكتب لها النّجاة؛ النّجاة بطفلتها إن كانت أنثى، والنجاة من قومٍ كافرين.
انتهت يوكابد من قضاء حاجتها وهاهي عائدة مع أسماء لم تتحدثا معًا منذ خرجتا من الدار، بل لم تنفرج شفتاها عن بعضهما وبقيتا ملتصقتين.
لكن بعد السّير لمسافةٍ ليست بقصيرة في طريق العودة شعرت يوكابد بتقلّص وألم في أسفل بطنها فتوقّفت فجأة وأمسكت بأسفل بطنها فالتفتت إليها أسماء وتساءلت في لهفة: ما الخطب؟ هل أنتِ بخير؟
فأومأت يوكابد برأسها تنفي ثم أشارت إلى صخرة على جانب الطريق وهي تسير بخطواتٍ مُثقلة بالتعب ولا زالت تمسك بأسفل بطنها منحنية للأمام قليلًا وهي تقول لاهثة: سأجلس هنا ريثما أستريح قليلًا.
وجلست بهدوء واحتراس ونزعت ذلك الوشاح الذي لثمت به وجهها الجميل، وأخذت تلتقط أنفاسها، فتابعت أسماء: لا عليكِ عزيزتي، مؤكد هو من طول السّير؛ فالمسافة ليست بالقليلة أبدًا وأنتِ قد صرتِ في شهرك.
مرّ بعض الوقت ونهضت يوكابد من جديد وتابعت سيرها دون أن تتلثم مجددًا وكان قد اختفى الألم، لكن بعد مسافةٍ أخرى عاودها الألم من جديد، فطافت بعينيهَا في المكان حتى لمحت صخرة تشبه الأولى فجلست عليها تستريح وتلتقط أنفاسها المحتبسة.
عاودت السير مرة أخرى وقد بدأ الليل يعسعس بالفعل؛ فقد غربت الشمس وبعد قليل ستهجم ظُلمة الليل فعليهما الإسراع قبل غمور الكون بالليل التّام.
وأخيرًا وصلتا إلى البيت ولا زال هناك بقايا من الضّوء يمكن رؤية عبره خيالات لأشخاص.
اتجهت يوكابد إلى مخدعها وهي تهمس إلى أسماء: أريدك الليلة تبيتين معي.
فأومأت أسماء وتابعت: حسنًا! سأنتهي أولًا من بعض الأعمال المنزلية ثم أجيئك، لكن سأحضر لكِ كوبًا من الحليب المُحلَى بالعسل لتتقوّي قليلًا؛ يبدو أن السّير الطويل قد أرهقك بشدة.
فتنهدت يوكابد وهي تهمس لتسايرها: ربما!
قالتها وتابعت سيرها نحو حجرتها بينما لحقتها أسماء بعدها بكوب الحليب، ساعدتها في خلع جلبابها وأعطت لها الكوب وهي تقسم عليها إن شعرت بأي ألم أن تناديها، فأومأت يوكابد برأسها؛ فليس لديها خيار آخر.
بدأت يوكابد ترتشف الحليب بتباطؤ ثم شعرت بحركة أقدام قريبة فانتفضت واقفة وما أن نحّت ذلك الكوب جانبًا حتى تفاجأت بشابٍ طويل القامة، عريض المنكبين تميل بشرته إلى السّمرة، شعره فحمي غزير وكذلك لحيته.
ابتلعت ريقها ببطء، تلاحقت أنفاسها وتباطأت خطواتها للخلف بخوف وهي تقول بصوتٍ متحشرج: ما الذي جاء بك إلى هنا؟
فأجابها بغواية وبعض المكر: جئتُ لأراكِ يوكابد؛ فقد اشتقتُ لكِ والتهب فؤادي بعشقك وجمالك الفتّان.
فأومأت برأسها معترضة قائلة بنفس خوفها: لا ينبغي هذا أبدًا؛ أنا امرأة أبيك وأمّ لأخيك أو أختك.
فأومأ برأسه ينفي وهو يتابع مقتربًا: لا يا يوكابد؛ لقد قدّمت القرابين للآلهة وستنجبين أنثى وسيسرّحكي أبي كما يفعل دائمًا بكل نساءه، وبعدها ستكوني لي، لن أظل منتظرًا حتى تؤولي إليّ بعد موت أبي.
فتابعت بصوتها المتقطع: هيا إخرج فورًا! و انسى كل ما قُلته، فهذا لا يمكن!
فقاطعها بإصرار وقد صار مقابلًا لها: بل سيمكن وسيتحقق مرادي، فقد كان جدير بكِ أن تكوني لي من البداية؛ فأنا من أحببتكِ أولًا وهو من طمع بكِ، كما أننا متقاربين في العمر وسنصبح مثاليين لحدٍ كبير.
قال الأخيرة وهو يسير بطرف أنامله على كتفيها وذراعيها النّاعمَين يتحسسها فانكمشت في نفسها وهي في حيرة لا تعرف كيف تتصرف، فتابع قائلًا وهو يقترب بجسده نحوها: أرغب فقط بتذكارٍ صغير من ثغرك المكتنز هذا حتى تصيري ملك يميني، أريد أن أروي ظمأي.
فأحاط خصرها بين ذراعيه فصرخت فجأة وهي تمسك بأسفل بطنها وتصيح بألم: آه... يبدو أن الولد سينزل... آه!
فزع الشّاب خاصةً وهو يشعر بشيء قد مسّ قدميه يبللها فابتعد قليلًا ولمح في ضوء المصباح الضعيف شيئًا ما في أسفل ثوبها لا يدري إن كانت مياه الولادة أم دماء تهبط من بين ساقيها؛ فالإضاءة ليست كافية.
لكنها بدأت تضغط على أسفل بطنها بشدة وتتعالى صرخاتها فتلفت الشّاب حوله وخرج مسرعًا وتركها تعاني وتصرخ.
وما أن خرج ذلك الشّاب وهو يتسلل على أطراف أصابعه ويتلفت حوله ليجد يدًا تمسك كتفه بقوة فانتفض وهو يلتفت لمصدر تلك القبضة، ثم زفر براحة ناظرًا لأمه وسحب نفسه بعيدًا عن قبضتها وأهدر مستنكرًا: ألم تنتهي يا أمي عن أفعالك هذه؟! كاد قلبي يتوقف من الفزعة!
فتمايلت الأم وهي تجيبه بتهكم: ترى من كنت تظنني أيها الأرعن؟!
ثم صاحت وهي تجحظ بعينيها المريبتَين: ماذا كنت تفعل في حجرة تلك اللعينة؟
فأجاب بتهكم: لا شأن لكِ.
فصاحت فيه: انتقي ألفاظك يا زُهير.
- وإن لم أفعل، ماذا بيدكِ يا ترى؟
- لا تجعل صبري ينفذ.
- لا يهمني شيء، ستلد أنثى ويتركها أبي وآخذها أنا وقُضي الأمر.
فصاحت بغل: لا أدري أي سحر سحرته لكما تلك اللعينة!
ثم تنفست بعمق وزفرت ذلك الهواء وأكملت محاولة تصنّع الهدوء: بُني الغالي، لا داعي أن تلتفت لتلك الأَمة؛ فهي في النّهاية تباع وتُشترى يومًا بعد يوم وتصبح في حضن هذا وتمسي في فراش آخر، إستمع إليّ جيدًا، عليك بالزّواج من ابنة خالك صخر.
فصاح بفجأة: أتزوج من؟! مُليكة ابنة أخيكِ! إنها تشبهك يا أماه!
-صه أيها الحقير! النّساء جميعهن شيءٌ واحدٌ والأَولى أن تختار من تجني من خلفها المنفعة؛ ومُليكة أيًا كانت ملامحها فهي ابنة خالك الوحيدة؛ فقد فَقَدَ كل أبناءه، وهذا يعني أنها الوريثة الوحيدة، أي سيؤول لها كل شيء، لها ولأبناءها فلا يمكن أن يخرج ذلك الإرث للغرباء أبدًا.
ثم ضغطت على أسنانها وتمتمت بحقدٍ دفين ونبرة غير مسموعة: عليّ أن أستعيد مال أبي الذي حرمتني منه يا صخر!
فعكّر زهير حاجبيه وضيق عينّيه ثم قال: بماذا تتمتمين؟!
فأجابت بتوتر: لا شيء.
- لا تشغلي بالك بتلك الأمور، فأنا لا أريد سوى يوكابد.
فصاحت فيه: وحق هُبل الأكبر إنك لأحمق! أخبرك بأموالٍ وتجارة كبيرة ستؤول كلها إليك وتقول يوكابد!
- إسمعي أمي، يوكابد لي مهما فعلتِ.
ثم التفت يهم بالخروج فأمسكت بذراعه تستوقفه وتصيح: إلى أين فلم أنتهي من حديثي بعد!
- اليوم خمر ونساء.
فجاءت صرخة مدوية من داخل حجرة يوكابد، فأشار بسبابته باتجاه الحجرة وأكمل: هل تسمعين؟ يوكابد تلد، وستلد أنثى، بل مهما أنجبت ستكون أمام الجميع قد وضعت أنثى، وسآخذ وليدها هذا أيًا كان نوعه وأدفنه بيدي وأطأ عليه التّراب بقدمايّ مثلما يفعل أبي دائمًا، أي سيتركها وآخذها أنا.
فصفق بيديه وهو يصيح: ما أروع دهاءك يا زُهير!
فباغتته بقولتها: بل ستفعل ما أريده.
فأومأ برأسه رافضًا وتابع يريد إغضابها: ليتني أعرف لماذا لم يدفنك جدي في مهدك واكتفى بخالي صخر.
فضغطت على أسنانها وقبضت يديها بقوة وقالت من بين أسنانها بغضب: حتى أنجب ابنًا عاقًّا مثلك.
فأومأ برأسه بعدم اكتراث: لا يهم.
ثم رفع كفه وتابع بانسجام: عمتِ مساءً يا أمامة!
ثم قهقه ضاحكًا بملء صوته حتى غادر البيت، فأطلقت أمامة بعينَيها الجاحظتين شررًا من الغضب وهمست بشر: وحق هُبل الأكبر يا ابن عبد العُزّى ستفعل ما آمرك به ورغمًا عنك!
ثم التفتت نحو حجرة يوكابد والتي يخرج منها صرخاتها من حينٍ لآخر وتابعت بشر: أما أنتِ فقد حان موعد العقاب الأزلي...
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro