(14)
بقلم نهال عبد الواحد
ظلت يوكابد تحتضن صغيرتها وهي ترتعش خوفًا حتى من شدة ارتعابها لم تشعر بالحوار الذي دار بينهما، فقط بدأت تنتبه لتلك الخطوات التي تقترب رويدًا من الخيمة، فتحول بكاءها إلى شهقاتٍ مسموعة.
وفجأة سمعت صوت تصفيق، إنه حتمًا عمارة؛ هكذا اعتاد أن يفعل قبل أن يدلف إلى داخل الخيمة.
فهبت واقفة ولا زالت دموعها تتساقط، حاولت أن تخرج الحروف من مخارجها بصعوبة بالغة لتقول: تفضل.
دلف عمارة وبدأت قدماها تخوناها وكادت أن تسقط أرضًا لولا أن أسرع إليها ليسندها هي وطفلتها ثم أجلسها بهدوء وأسرع يحضر لها بعض الماء، نثر بعضه في وجهها وبدأ يسقيها بهدوء بضع رشفات حتى سكن روعها.
شجع نفسه و ربّت على كفها وتساءل بهدوء: ماذا بك؟ لماذا لا زلتِ مرتعبة؟ لقد رحل الجميع وابتعدوا جميعًا.
فتساءلت بتعجب: هكذا! بتلك البساطة! ابتعتني منه إذن!
فتنهد بهدوء ثم قال: إهدئي، هو لم يطلب سوى شراء بعض الأغنام ثم قمت بحلب بعض الحليب وقدمته ككرم ضيافة.
- فقط!
- قلت لك إهدئي؛ هو لم يلحظكِ من الأساس، ألم أقل لكِ قد أجرتِك!
فزفرت براحة وهي تتمتم: حمدًا للربّ! أشكرك جدًا سيدي!
سكت قليلًا ونظر أرضًا ثم رفع عينيه إليها وحملق فيها بعمقٍ فاجأها فأخفضت عينيها بخجلٍ لأسفل وتخضّبت وجنتيها فازدادت جمالًا على جمالها.
فرفع وجهها بطرف إصبعه وتنهد بعشق ثم قال: إسمعيني جيدًا يوكابد.
فأومأت برأسها وأمالتها لتنصت إليه، ثم قال: قد عشتُ سنوات من عمري ولم أرغب بوجود امرأة في حياتي، بل لم يشغلني الأمر برمته، لكن منذ أن وطأت قدماك هنا ودخلتِ حياتي وقد تغير كل شيء، اعتدت على وجودك معي بل صرتُ لا أستطيع العيش دونك.
فابتسمت يوكابد وتنهدت بهدوء، ثم أغمضت عينيها وهمست: وأنا خادمتك سيدي وملك يمينك أبدًا ما حييت.
فشدد مسكته بيدها وابتسم بعشق وأومأ برأسه نافيًّا وتابع: لا يوكابد، أنا أريد هذا...
وأشار إلى قلبها فاتسعت ابتسامتها ثم أكمل: يوكابد أنا أحبك أشدّ من أي حبّ، حتى أشدّ من حبّ جميلٍ لبثينة وعشق عنترة لعبلة، يوكابد أنا أريدك زوجةً لي طوال حياتي وابنتك هذه هي ابنتي سأربيها وأحسن تربيتها، سأتبنّاها وتصبح من اليوم راحيل ابنة عمارة.(*)
فتهللت أساريرها قائلة: آلله!
-آلله!
فاقترب منها وقبل جبهتها بعمق فارتجفت بشدة، فنهض واقفًا واتجه خارج الخيمة ثم أدخل بعض الأشياء يحملها من الخارج ويدخلها، فنهضت يوكابد هي الأخرى، اقتربت نحوه بضع خطوات ثم نظرت بتساؤل نحو تلك البضائع ثم أعادت نظرها إليه.
فرفع عينيه إليها قائلًا: هذه أثواب وبعض الحنطة قد قايضتهم بها مقابل الأغنام، خذي منها ما يكفيكِ لكِ ولراحيل.
فقالت بامتنان وسعادة شديدة: أشكرك جدًا سيدي، بارك الرب فيك!
- ألن تقبليني زوجًا لكِ؟!
فأومأت برأسها موافقة بخجلٍ شديد، فأكمل: إذن نادي زوجك باسمه، قولي يا عمارة مثلما أناديكِ يوكابد، أو حتى قولي يا أبا راحيل.
فاتسعت ابتسامتها وتابعت: حسنًا يا أبا راحيل!
فربت على كتفيها وقال: سأذهب أنا الآن لأرعى أغنامي وسأعود إليكِ في نهاية النهار مثلما اعتدتِ.
ثم قال بعشق: سأشتاق لكِ يوكابد، إعتني بنفسك.
ثم انصرف مغادرًا الخيمة فتهللت أساريرها ووضعت يدها على قلبها ذلك الذي يدق بقوة، تلتقط أنفاسها بالكاد لكن هذه المرة من فرط السّعادة وسلطان العشق، ثم قالت: أحمدك يا إلهي! وأخيرًا قد تحققت أمنيتي وحلمي الذي كان مستحيلًا لكنه حدث بالفعل وصار أمرًا واقعًا، صار زوجي وصرتُ زوجته، أسمعتِ حديث أبيكِ يا راحيل! لقد أحبني مثلما أحببته، سيظل ساكنًا قلبي أبدًا ما حييت، وقد حرّمت عليّ أي رجلٍ غيره حتى آخر لحظةٍ من عمري.
هكذا كانت يوكابد تحدث نفسها بسعادة مفرطة، لكنها لم تكن تعلم أن عمارة لا زال واقفًا بالخارج وينصت لكل كلمة تقولها ويبتسم بسعادة هو الآخر!
أخذ عمارة أغنامه وذهب بها لحيث يرعاها، كان يشعر أنه قد وصل لأعلى وحلّق فوق السّحاب وصار يمس نجوم السّماء بيديه، قد باح بكل شيء وسيبدأ عمره بحق من اليوم، هاهو يجلس أمام أغنامه ويحسب الوقت حتى يعود إليها، إن كان الحلم رائع فعيش الواقع أكثر روعة، بل فاق كل وصف، هكذا تقف حروف اللغة بكل بلاغتها عن وصف مكنونات القلب ومهجته.
وأخيرًا قاربت الشّمس من المغيب وهاهو سيهل المساء وقد عاد عمارة بأغنامه ووضعهم في محبسهم ثم سار بتباطؤ نحو الخيمة يشعر بارتباكٍ كبير، فلا يدري من أين يبدأ!
وقف أمام مدخل الخيمة وتنحنح ثم صفق بيده وهو يحني رأسه جانبًا ليتسمع صوتها آذنة له بالدخول، لكنه لم يسمع شيء، فقط لاحظ مدخل الخيمة يتقلص إلى الجانب سامحًا له بالدخول.
فتنحنح مرة أخرى ثم أمسك بطرف مدخل الخيمة ودلف إلى داخلها وأغلقه من خلفه وقد كان هناك مصباح زيتي واحد مضئ بخفوت في إحدى جوانب الخيمة، مما أضفى نوع من الجو الشاعري الرومانسي.
التفت خلفه فوجد يوكابد واقفة مرتدية ثوبًا يخيل إليه أنه أحمر اللون، ذات حمالتين عريضتين ومفتوحة من الأمام تظهر مفاتن صدرها وتترك لشعرها العنان وقد ظهر طوله واضحًا إلى آخر ظهرها.
اقتربت منه فخلعت عنه عباءته وعمامته وعلقتهما بينما هو كان يتابعها بعينيه حتى عادت واقفة أمامه مرة أخرى مرتبكة فاركة يديها بعضهما ببعضٍ.
ابتلع ريقه بتوتر وبعض الارتباك ثم ابتسم وربت على كتفيها ثم سار بأطراف أنامله متحسسًا بشرة ذراعيها فسارت قشعريرة في بدنها، فأخفضت بصرها قائلة: لقد أعددتُ لك بعض الخبز من الحنطة.
فأومأ برأسه ثم اقترب منها وقبل جبهتها بعمق، فأسندت برأسها عليه واضعة كفيها على صدره فتجرأ وضمها إليه، فشعر بأنفاسها في عنقه فشدد في ضمته لها.
فهمس لها: قد اشتقتُ إليكِ.
فأجابت هامسة مع بعض التقعر في حديثها: بل شوقي إليك أكثر.
- قرة عيني في رؤيتك وقربك.
- وإن أردتُ يومًا الكحل، فلم يعد لدي حاجة به، فقط اكتحلت عيناي برؤياك.
- بل يخجل الكحل ويخر من جمال عينيكِ، وإن صمد وثبت فمنه فأغار عليكِ.
- أنت السّيد والرّجل، إن تُقبّل أُعانق وأفرش لك النّمارق.
- سأقبّل وأقارب دون أن أفارق.
- هيتُ لك فأنا لك.
- سيبدأ عمري من اليوم بل من هذه الليلة.
- بل عمري أنا الذي سيبدأ.
- يوكابد... زوجتي...
وقبل أن تجيبه بكلمة أكمل حديثه بلغةٍ أخرى، فإن عايشت مثل تلك اللحظات قبل الآن، فاليوم شعورٌ مميز وليلة خاصة، تكتمل دائرة العشق بينهما في لقاءٍ بين قطبيها، وبداية وصال أبدًا ما حييا بلا انقطاع فيه مادامت روحيهما مرسلتين في جسديهما، وما دام قلبيهما نابضًا، وما دامت الأنفاس شاهقة وزافرة...
-----------------
(*)
( كان التبني سائدًا في العصر الجاهلي بأن يتبنى الرجل ابن أو ابنة وينسبه إليه، فيكون له كل حقوق الابن أو الابنة الحقيقيين، وقد تبنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة ولُقب بزيد بن محمد، حتى جاء الإسلام وحرم التبني بقوله ادعوهم لآبائهم ).
(شرط الشّهود في الزواج والعقود لم يكن مشروعًا قبل الإسلام، وكان البغاء سائدًا وكانت بيوت البغايا معرّفة بعلامات فإن حملت من أحدهم لها أن تختاره أبًا أو تختار من تحب وليس له أن ينكر نسب الابن.)
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro