(30)
بقلم نهال عبد الواحد
- افعل ما تشاء أبتي...
أهدر بها أوس بضيق وتركه متجهًا نحو الحجرة التي بها عُمير، فتابع أبوه: إذن كن مستعدًا لعُرسك...
أومأ أوس برأسه على مضض ثم دلف إلى عُمير يحاول أن يطمئنه فارتمى جواره في الفراش وضمه إليه برفق وحنان حتى غفيا كلاهما.
وفي اليوم التّالي استيقظا اثنانتهما وكانا لا يزالا بغبار السّفر، فاغتسل كلًا منهما واستعدا للخروج؛ فقرر أوس أن يصحب معه عُمير في أي مكان يذهب إليه من باب الحِيطة فلن يترك عُمير بالبيت ربما ينفذ عبادة تهديده في أي لحظة كأسلوب ضغط عليه.
خرج من حجرته فطرق على الحجرة التي بها عُمير فوجده قد أنهى غسله وغسل بباقي الماء ملابسه وأمسك بها لا يدري أين يضعها، فنادى أوس على إحدى الجاريات فأشار لها أن تأخذ ملابس عُمير ففعلت.
وما أن تحرّكا بضع خطوات حتى استوقفه صحفة كبيرة بها خبز شعير وطبق من العسل وقدر به لبن، فأشار إلى عُمير ودعاه ليشاركه الطّعام؛ فقد باتا دون أن يتناولا أي شيء.
وبعد أن انتهيا من طعامهما خرجا معًا إلى السّوق بعد أن تفقد عُمير الأغنام فقد اشتاق لهم أو بالأحرى اشتاق لأيامٍ خلت وانتهت بلا عودة، فتنهّد بقلة حيلة؛ فهو لا يملك إلا أن يفعل ما يريده أوس وداخله خوف كبير أن ينفذ الأب تهديده، ترى هل سيكون آخر تهديد؟!
مرت عدة أيام على نفس الحال دون جديد ولم يفاتح والده مجددًا أو يناقشه في أمر زواجه، ولم يتجرأ عبادة أن يعيد ذلك الحديث لكنه ذهب لأخيه وحدد معه موعد لتُزف راحيل لابن عمها وأيضًا دون أن يراها، ولم يبدي عبد العُزّى أي تعليق خاصةً عندما جاءه عبادة بأكياس الذهب صِداق ابنته.
في الواقع لم تكن حالة راحيل أو هيئتها مناسبة للرؤية إطلاقًا، فكونها كانت حبيسة تلك الحجرة دون السّماح لها بالخروج لأي سبب جعل هيئتها شديدة الإتساخ ورائحتها أقذر من رائحة حيوان بري، فلم تقرب الماء ولم تُبدل ملابسها الممزقة والمتسخة بدماء جروحها بالإضافة لآثار دماء الحيض وقذارة البول والغائط، حتى أن الحجرة بأكملها كانت نتنة الرّائحة، فلحسن حظها أنها لم تمرض بسبب كل هذه القذارة.
كان كل يوم يمر على أوس يقترب فيه موعد زفافه يزداد قتامة ووجعًا؛ كونه مجبرًا من ناحية وشعوره بأنه سيظلمها فقلبه مع غيرها والتي لا يعلم كيف ولا أين سيجدها؟!
يسأل نفسه متى سيشفى من هواها قلبه المعذّب؟ ولمتى يظل شاعرًا بمئات الأسهم تخترق قلبه؟ فلم يجد من هذا الحب إلا البعد، الوجد، الاشتياق والرجفة! فلا يستطيع الوصول إليها ولا حتى معرفة مكانها...
ربما لو علم حقيقة عروسه ما ظل في هذا العذاب الأليم!
وجاء يوم العرس وقد طلب عبادة من زوجته أن ترسل للعروس خادمتين لتعدانها؛ فيعلم أنه لا أحد سيأبه لها أو يهتم بأمر إعدادها.
وبالفعل اضطرت زبيدة لإرسالهما على مضض ٍ لكن في الأخير ستكون عروس ابنها ويلزم أن تكون في أتم زينتها، وبمجرد وصول الخادمتين تفاجأتا من حال ووضع هذه العروس.
وبدأتا بتنظيفها وتحميمها في مجهود شاقّ قد بالغتا في ذلك لدرجة أن تفتحت جروحها التي لم تُشفى من الأساس، فلم تتوقف عن البكاء وقد اجتمعا عليها شدة الوجع والقهر معًا.
نجحت الخادمتان في تنظيفها تمامًا وتعطيرها بالمسك، لكن بمجرد أن ارتدت ثوبها ولامس تلك الجروح واحتك بها حتى صار بكاءها نحيبًا فلم تتمكنا أيهما من تزيين وجهها ولا حتى اكتحال عينيها، بالكاد مسدتا شعرها في ضفيرتين طويلتين ثم غطوا وجهها ورأسها بوشاح.
وكانت مراسم الزّواج عندهم في صورة اجتماع كبير للقوم عند بيت العروسين والذي كان غالبًا ما يكون في بيت أهل بيت الزّوج، مع إقامة ولائم من الطّعام خاصةً لو كانوا من أشراف القوم، يتبادلون إلقاء الشّعر سواء من ينظم الشّعر منهم أو يلقي أشعارًا مشهورة بين قبائل العرب لبعض الشّعراء المشهورين وقتها، ورغم أن أوس كان مولعًا بتلك الاجتماعات والسّماع إلى ألوان الشّعر المختلفة لكنه اليوم لم ينتبه لأي شيء، كان صدره يضيق بشدة ويشعر باحتباس أنفاسه يتمنى لو يفر من بينهم ويهرب بلا عودة، لكنه تفاجأ بارتفاع أصوات الدّفوف وزغاريد النّساء دليل على قدوم العروس داخل هودجها المتمايل والمغطى بالسّتائر الحريرية المزركشة.
توقّف الجمل الحامل لهودج العروس وبدأ ينخّ لأسفل حتى جلس أرضًا، فتحرّك عبد العُزّى والزُّهير ليمسكا بيديها ويسلّماها لزوجها.
كان صوت بكاءها واضحًا وكانت منذ أن ركبت ذلك الهودج وهي تلعنهم وتسبهم جميعًا بل وتدعو على نفسها وعليهم، فسمع الزُّهير صوتها الخافت المختلط بالبكاء: اللعنة عليكم جميعًا! نجّيني يارب من هذا الهم والغم! انتقم منهم جميعًا وخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعلت بقوم عادٍ وثمود! أو خذني إليك يارب وأرحني من هذا العذاب الأليم!
فاغتاظ منها الزُّهير وزاد غضبه خاصةً عندما رفضت أن تمسك بيد أيهما لدرجة أن رفع الزُّهير يده وهمّ أن يلطمها لكن وجد يدًا تمسك بيده بقوة، فالتفت إليه ليجده بالطّبع أوس وعيناه تشتعلان غضبًا ثم نبس من بين أسنانه: لم يعد لك هذا بعد اليوم؛ فقد صارت زوجتي.
ثم دفع بيده للخلف بعيدًا عنها فمرت من جانبه وكان وجهها مغطى وكانت تترنح كثيرًا في مشيتها كأنما طفلة حديثة المشي لم تجيده بعد فتكاد تتعثر وتسقط من حينٍ لآخر، دون أن يدرك أحدهم سر طريقة السّير هذه أو أنها في معاناة من ألم جراحها الحيّة.
كانت المرة الأولى التي يخرج فيها الزُّهير من بيت أبيه منذ أن عاد بعد طول غياب، ولم يكن منتبهًا أن هناك من كان يتربص به وينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر.
دلفت راحيل إلى داخل بيت عمها وتبعها عمها وابن عمها، كانت زبيدة جالسة بالدّاخل تنتظر العروس ويجلس جوارها عُمير الذي فضّل المكوث بالبيت عن تلك الضّجة والازدحام.
وبمجرد دلوف الجميع إلى داخل البيت تحرّك عبد العُزّى والزُّهير عائدَين للبيت وكل واحدٍ منهما يمتطي جواده.
كان عمّار منذ أسابيع ومنذ أن انطلق خلفهما يتتبع أثرهما حتى وصل بالفعل إلى هذه البلدة وأقام فيها يبحث عن أخته في كل أرجاءها، وأخيرًا قد سنحت له تلك الفرصة اليوم أن يرى ذلك الذي نحت ملامحه في ذاكرته، وقد علم أن أخته تُزف على شابٍ ما فبدأ يسأل عن ماهية شخصه وطباعه متخفيًّا، لكنه ظل منتظرًا حتى تسنح له الفرصة بعد أن يهدأ ذلك الجمع.
وهاهي قد قُدّمت له الفرصة على طبق من ذهب وبدأ يسحب رمحه الذي من الصعب أن يُخطيء ليصوّبه نحو ذلك الزُّهير، لكن بمجرد أن همّ برميه حتى سبقه سهم أحدهم وأصابه في عنقه، فتجمد عمّار في مكانه من الصّدمة فقد خرّ الزُّهير قتيلًا قبل أن يقتص منه ويثأر لأمه وأخته.
لكن كان هناك عينان أخريان تتربصا به وتنتظراه منذ سنواتٍ طويلة، إنه صخر خاله الذي أقسم أن يثأر لابنته مُليكة فصوّب سهمه وأحسن تصويبه ثم انطلق هاربًا بفرسه خارج البلدة؛ فلم يعد له أحد هنا وقد انتهت كل عائلته وفارقته الأحبة...
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro