(27)
بقلم نهال عبد الواحد
جلس الأخَوان معًا وتناقشا في بعض أمور التّجارة مع بعض الأحداث الجانبية ثم انتهى اللقاء وغادر عبادة بيت أخيه.
وبعدها خرج الزُّهير من حجرته وقد استيقظ توًا، فنظر متسائلًا نحو أبيه: قد خُيّل إليّ صوت عمي عبادة! هل كان هنا بالفعل؟!
فأومأ عبد العُزّى مؤيّدًا بسعادة، فزم الزُّهير شفتَيه بشكّ وتساءل في دهشة: ترى ما سر السّعادة التي تتراقص على وجهك؟! بل احتلت كل معالم وجهك!
فأجابه متهللًا: لقد تقدّم عبادة لخطبة ابنتي لابنه.
ابتعدت شفتا الزُّهير بصدمة ثم قال: أي ابن؟!
- أي ابن أيها الأبله! كأن لعمك عشرات الذّكور! خطبها لابنه الوحيد أوس.
ثم تمتم عبد العُزّى: لا أدري ما هذه اللعنة؛ فكلانا لم يملك إلا ذكرًا واحدًا.
أطال الزُّهير النّظر إلى أبيه ثم تساءل بتعجب: ماذا تقول يا أبتي؟!
فأومأ عبد العُزّى وتابع: لا شيء، المهم الآن أن أوس هذا وحيد عمك أي وريثه الوحيد وبزواجه من أختك سيؤول لنا كل شيء.
- لكن أوس هذا لا شأن له بالنّساء يقال أنه عاجز، فكيف ستزوجه ابنتك؟
- لا يهمني كل هذا، يتزوجها يعذبها يقتلها لا يهم، المهم أن يفلح تخطيطي هذه المرة، كما تعلم فتجارتنا صارت قائمة منذ أعوام على أموال عمك فقط، ولم يعد لديّ ما يحافظ على حجم التّجارة ولا طاقة لي بالسّفر في رحلات التّجارة.
ثم اتسعت ابتسامته وقال: سيدفع عمك خمسة أكياس من الذهب صداقًا لها، وبمجرد وصول أوس سنزفها إليه، ولذلك يكفي ما تفعله بها، حسبك جلدًا لها كل ليلة؛ لا يمكن أن تذهب بيت زوجها في هذه الحالة...
لكن قاطعهما صوت بابٍ يُفتح وتخرج منه راحيل تتحامل على نفسها لتتحرك وتخرج من الحجرة رغمًا عن الخادمة؛ فقد سمعت ما دار بين عبد العُزّى والزُّهير.
فصاحت فيهما: من هذه التي ستذهب إلى بيت زوجها؟!
نظر إليها عبد العُزّى وتفحّص هيئتها المنهكة والإصابات والخدوش التي تملأ وجهها بالإضافة للخطوط المقطّعة في كتفيها وتغوص حتى اللحم في جروحٍ قطعية من جرّاء الجَلد، لكنه أجابها في اقتضاب: أنتِ هي العروس وستُزفي إلى زوجك ابن عمك.
فأومأت برأسها مستنكرة وصاحت: لا يمكن أبدًا أن يحدث! لا أقبل بل لا أريد هذا الزواج! حتى لا أريد البقاء معكم! رجاءً أعيدوني إلى أبي! أعيدوني إلى موطني وسأحاول نسيان كل ما جرى.
فابتسم عبد العزى بسخرية وأهدر: أتريدين العودة إلى أبيكِ وإلى موطنك! إذن أين أنتِ يا ترى؟! ألستُ أنا أباكِ؟! وأليس هنا مسقط رأسك؟!
فأومأت برأسها نافية بشدة وتابعت بمرارة: لم تكن يومًا أبي، لا في الماضي ولا حتى الآن، أبي هو عمارة، ذاك الرجل الذي أحبني وأعطف عليّ ورباني وتبنّاني، لم أشعر يومًا إلا أنه أبي، أشعر به الآن يكاد يتمزق من شدة الوجع على فقدان أمّي، أمّي التي أحبّها وعشقها كأشد ما يكون العشق.
ثم التفتت إلى الزُّهير قائلة: لقد نشأت في البادية ولم أعرف أناسًا لكن يتلخص مفهوم الحب والعشق في عمارة ويوكابد، أما ما تفعله فليس له أية علاقة بأي حب، لو أحببتها بحق كنتَ تمنيتَ لها السّعادة حتى ولو كانت مع غيرك، كان سيكفيك أن تراها سعيدة؛ فأمل المحب سعادة حبيبه، لكنك قتلتها! أعلم في الأخير هو نهاية عمرها حتى ولو لم تقتلها كانت ستموت، لكن كل ذلك الانتقام والكره نحوي لا يصدران إطلاقًا من قلبٍ محب أو قلب قد جرّب الحب، أنت فقط رغبتَ بها، أردتَ أن تتمتع بها لنفسك لكن إياك أن تدّعي الحب؛ الحب والكره لا يجتمعان بقلبٍ قط!
فنهرها الزُّهير وصاح فيها: لا شأن لكِ بقلبي ولا بأفعالي؛ فأنتِ بلهاء لا تفهمين شيئًا.
فصاح عبد العُزّى: دعك منها وكن مع أبيك، عُد إلى العمل وتولّى التّجارة لا تجعل أوس ينفرد بزمام الأمور، وأشر نحو أي فتاة وسأزوّجها لك على الفور.
فأجاب الزُّهير باستنكار: لا أريد الزّواج.
فأهدر أباه: إذن عُد لحياتك الأولى، سأجلب لك بضع جواري ليكنّ ملك يمينك، ما رأيك؟
فصاح الزُّهير بقوة: قلتُ لا أريد!
فتدخّلت راحيل بتوسل: لكنّي أريد العودة، أعيدوني لأهلي رجاءً!
فدفعها عبد العُزّى بكل ما أوتي من قوة لداخل الحجرة وصاح فيها: قلت ادخلي واغربي عن وجهي!
فسقطت أرضًا فتأوهت بشدة وتساقط دمعها فأغلق الباب عليها ووصّده وسحب ابنه يحاول استرضاءه.
عاد عبادة إلى بيته يحمل ملامح مستاءة أشد الاستياء، فالتقى بزبيدة زوجته فنهضت تستقبله لكن دون بشاشتها المعتادة بل احتلت ملامحها القلق والتوتر ثم تساءلت: تبدو كأنك فعلتَ ما انتويتَ عليه!
فأومأ عبادة ثم جلس فاقتربت وجلست جواره وقد تبدّلت ملامحها للحزن فتنهّدت قائلة: إذن قد خطبت تلك الفتاة لأوس على غير رغبته ودون علمه!
- هي ابنة أخي وينبغي عليّ حمايتها إن كان أقرب الأقربين هو أشد من يؤذيها.
- لكن...
بترت جملتها ثم ابتلعت ريقها وتشجّعت قائلة: لكنك قررت ألا تجبر ابنك يومًا على زيجة ولن تقع في نفس خطأ أخيك.
- لم أقع في نفس خطأ أخي، هو خطط من أجل المال أما أنا فنيتي خيرًا؛ أريد تخليص تلك المسكينة المنهكة، وبعد ذلك له مطلق الحرية إن أراد غيرها فليتزوجها فلن أمنعه.
فتنهدت بقلة حيلة ثم تساءلت: هل تقابلت معها؟
فأومأ برأسه نافيًّا قائلًا: لم أراها وليس لديّ أي فكرة عن ملامحها حتى قد نسيت أن أسأل عن اسمها!
فقوّست زبيدة شفتيها بعدم رضا، فتابع عبادة: ليتها تحمل ملامح أمها؛ وقتئذ جمالها الفتّان سيتشفع لنا في تلك الفعلة.
فزمت حاجبيها وتساءلت: هل كانت أمها جميلة؟
فأومأ بكتفيه أن لا يدري وأجاب: لم أراها يومًا، لكنّي سمعت أنها كانت بديعة الجمال، والدّليل أن أخي عبد العُزّى مكث معها قرابة العام لم يقرب من أنثى غيرها ولا حتى أمامة أم الزُّهير، حتى ظننتُ أنه قد عشقها غير أنه بعد هروبها عاد لحاله الأول!
- لهذا كادت لها أمامة!
- غير متأكد، لكن على الأغلب أن هذا ما حدث، لكن على أية حال فهي في الأخير قد نالت عقابها وذهبت بلا رجعة.
فربتت على فخذيها بقهر وقالت: ترى ماذا ستفعل يا أوس عندما تعلم بالخبر؟
فصاح فيها: ماذا سيفعل غير أن يطيع أباه ثم يفعل ما يشاء بعدها، لكن سفرته قد طالت هذه المرة، ترى ما سر غيابه؟
- أعتقد أنّي أصبت في إحساسي المرة السّابقة، مؤكد هناك حبيبة قد اخترقت قلبه وتسكن في بلدة أخرى وينتهز الفرصة ويذهب إليها، ليته يخبرنا من تكون وسنزوّجها له على الفور...
فنظر إليها عبادة وتنهّد دون أن يعقب؛ فهو بالفعل لا يأمن عاقبة فعلته هذه ويرجو من داخله ألا تكون سببًا في إفساد علاقته بابنه...
أما أوس ففي طريق عودته من سفرته سلك الطّريق المؤدي لذلك العين حتى ظهرت ملامحه عن بعد على مرمى البصر.
شعر بروحه ترفرف وتحلّق مثل ذلك الطير في السّماء، لديه رغبة أن يحتضن كل حبة رملٍ تحيط بالمكان ويقبّلها لمجرد أنها قد وطأت عليها.
شدّد في مسكته للجام فرسه ليزيد في سرعته ويطوي الأرض فيلحق بها قبل مغيب الشّمس، ينتوي لقاءها ثم يتلمّس مقبض سيفه ويبتسم ويتذكر قولته لها أن لديه ثأر ولن يتركه، وكيف كانت إجابتها قوية أن الأفضل أن يتركه بدلًا من أن يترك الحياة بأكملها... ثم قهقه ضاحكًا وأكمل طريقه.
لا زالت ذكرياته تراوده عندما وقعت عيناه عليها ورأى وجهها الرّائع الفتّان فظلّ يردد داخله قولة عنترة بن شداد:
رمت الفؤاد مليحـة عـــذراء
بسهـام لحــظ ما لهــن دواء
مرّت أوان العيد بين نواهـدٍ
مثل الشموس لحاظهن ظباء
فاغتالتني سقمي الذي في باطني
أخفيتــه فأذاعـــه الإخــــفاء
خطرت فقلت غزالة مذعـورة
قد راعها وســط الفــلاة بـلاء
وبدت قلت البدر ليلـة تمامــه
قد قلّـدته نجومهـا الـجـــوزاء
بسمت فلاح ضياء لؤلؤ ثغرها
فيــه لداء العاشقيـــن شفـــاء
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro