بالونان، غرّيزة الحياة، كشط
شعرت أريام بتحسُّن، الظُلمة والهدوء ساهما في ذلك، كما كان تأرجح السفينةِ وتمايلها بتناغم، ودّت لو تنطلق راقصةً عكس اتجاه الأمواج تحت ضوء كشّاف هاتف شريكها في الجُرم، إلا أنه سُرعان ما أطفأه وألقى بجسده. لم يبدُ بخيرٍ ولم تفهم السبب؛ فهي لم تصب بدوار البحر في حياتها ولن يحدث.
ربما عليها التصرف كرفيقة سبيل أكثر نضجًا، لم تجد دربًا أقرب لهذا أكثر من السؤال الأبسط: هل أنتَ بخير؟
تنفّس بتعسُّرٍ حين ردّ مُرغِمًا فكَّيه على الحِراك: إلى هذه اللحظة على الأقل، لم أتناول شيئًا منذ يومين لذا أفترض أننا سنكون بخير.
-لماذا؟
لا تسألي يا أختنا، كفاكِ تساؤلًا. عبّرَ عن هذا بتصريفها إذ كاد يقول «لاحقًا يا فلانة، لاحقًا» لكن استوقفه جهلهُ باسمها، فكّر بسؤالها عنه لكنه خشي أن تسأله «لماذا تريد أن تعرف؟» أو أي سؤال غبيٍّ كان.
استطاعت رؤيةَ بعضهِ بِشَطرِ نورٍ باثق، تخلّلَ مسامةً محصورةً من السقيفة بواسطة سراج الكون، مستخدمًا حقيبته الكحلية کوِسادة، أما البالونان المربوطان ملقيان بجواره.
-لماذا تتجولُ بهَذَين البالونَين؟
-ها؟
من بين جميع أسئلتها الغبية شعر بأنه هو الغبيّ لعدم فهمه. تجاهل تساؤلها هذه المرة فلا طاقة لديه للتركيز في الوضع الراهن. هي لم تتوانَ في تفصيل المعنى -مع أنه لم يسأل- ففَهِمَ ما قصدت، وأطلق ضحكةً صغيرةً مُنهكة.
-ألم تري قفاز ملاكمة من قبل؟
-قفاز! أتضعُ شيئاً بهذا الحجم في يدك؟!
أيقنَ بولادتها في كهف. من سيواسي القفازَين الباكِيَين الآن؟
قامَ متّكئًا على مرفقه، قرّرَ اللهوَ معها علّهُ ينسى الغثيان. اقترحَ عليها: بما أنكِ فضوليةٌ بشأنه، جربي ارتداءه.
حَسِبَت أنه ربما يكون مريحًا ودافئًا مثل قفازات الشتاء، ففوجئت بكم كانَ ثقيلًا بالنسبة لشيءٍ يُلبَس، كما كان ممزّقًا من الداخل جزئيًا، حتى أن شكله ليس جميلًا.
-كيف تطيقُ حملهُ معك في كل مكان؟
-هذا بوزن أحدَ عشرَ أونصة، توجد أوزانٌ أثقلُ منه.'¹'
-أعتقد أن حمل طعامٍ بهذا الوزن أفضل بكثير.
قالت تزامُنًا مع زقزقة عصافير معدتها.
-إن كنتِ جائعة ففَتّشي في حقيبتي عن شيءٍ تأكلينه.
قال «فتّشي» ولم يقُل «سأفتّش لكِ» كأنه لا يملك أيّة خصوصية أو أي شيءٍ يخاف عليه. حتى تصرّفاته وهيئته دلّتا على ذلك.
لم تستَحِ إطلاقًا ونبشت فيها بلَهفة، ليست تحتوي سوى الوجبات الخفيفة والقليل من المال، تذكّرت الأشياء الرائعة التي تخبّئها هي معها وقارنتها بأشيائه. لمَ هذا الفرق الشاسع؟
انتهى بها الأمر مستوليةً على علبة البرينجلز الحمراء، مع أنّ كَون نكهتها هي الأصلية لم يرُقها، هي تحب النكهات القوية مثل الملح والخل أو الباربكيو، فبدا أنه يخالفها تمامًا. سادة، صافٍ في كل شيء.
-لماذا تحاول السفر؟
بثّت بغتةً فتملّكتهُ الدهشة، سؤالها جاءَ مفاجئًا ودون مناسبة، كما أنه ليس سؤالًا تافهًا كما اعتاد منها منذ عرفها قبل بضع ساعات.
سايرها، مع أنه لم يكن جوابًا جادًّا ولا حقيقيًا: أهوى المُخاطَرة. وأنتِ؟
-أنا أتمنى الذهاب إلى مكانٍ لا يجدني فيه، مكانٍ لا يظهرُ في تطبيق التتبُّع على جهازه.
آخر شيءٍ توقّعه هو أن يكون جوابها مبهمًا أكثر من جوابه، كانَ متأكدًا من أنها ليست إنسانةً طبيعية، لم يكن له أن يتصوّر أنها ليست إنسانةً من الأساس.
-مَن؟
-صديقي.
تلاشى النور الذي يجيرهما خلال المسامة، عنى هذا أن فترة ما بعد الظهيرة قد انقضت أخيرًا، كان أطول نهارٍ يعيشانه على الإطلاق. بعد أن شفطَت أريام كلّ ما وُجِدَ داخل علبة البرينجلز، وختمت الألعاب في هاتف جليسها حتى صَفِرَت البطّارية إلا خمسةً بالمئة، قهرها الوسنُ فغطّت في سُباتٍ عميقٍ على حقيبته نابِذةً حقيبتها.
بلغَ بالشاب المللُ بعد نومها أن بدأ يسلّي نفسه بِعَدّ الشاحنات المحيطة بهما، عدَّ إطاراتها، جمعَ أرقامها، قسمهم على عمره وضربهم في عشرة. حتى شَهِدَ بريقًا يتقاطَرُ من الفتحة، بدأَ بقطرةٍ واثنتَين، سبعٍ وعشر، ثم انهمرَ بشكلٍ مهول ومفاجئ، إنه المطر، جاء المطرُ برفقة رياحٍ متجبّرة.
ما هيَ إلا مُهلةٌ سمعَ بعدها ضوضاء طاقم السفينة، مما دفعه لهزّ كتف التي تحاذيه مناديًا لإيقاظها.
لم يفلح، كان نومها ثقيلًا جدًا.
فما باليد حيلة، أخذ هاتفه الذي يوشك أن ينطفئ فشغّلَ الكشّاف، ثبّتَ إبهامهُ وسبّابتهُ فكانَ واحدٌ منهما تحت مِحجَرِها والآخر أعلاه. بسمَلَ خشية أن يتسبّبَ بقرارِ بؤبؤها، ثم أشهَرَ الضوء قُبالة المُقلة المرهونة مُبعِدًا كلّ طَرْفٍ عن أخيه.
صدحَ صراخها مُحدِثًا صدًى يتردّد، خضّت هدفَ رؤيتها مرارًا ورمشَت كثيرًا، لا زالت ترى مفرقعاتٍ تتسابق ودواخينَ ملونة.
-أقامت الساعة؟!
-هذا ما ينقصنا!
يتحدثُ آخذًا بمعصمها، بعدما حملَ أشياءَھما واندفعَ نحوَ السُلَّم.
لم تدرك الوضعَ الحاصل بعدُ فعَجِبَت تستنكر: لكن ألن يُكشف أمرنا إن صعدنا؟
-من يهتم بهذا الآن؟!
هذه المرة ليس هنالك وقتٌ للشرح. خاصةً وقتما جهرَ أحد أعضاء الطاقم بأن أفواتًا من مياه البحر تسرّبت إلى داخل السفينة فضاعفت وزنها.
همَّ رجالٌ إلى حيث كانا مختبئَين بعد صعودهما للتخلص من بعض الشاحنات؛ لتخفيف الحِمل. وكلٌ مشغولٌ بنفسهِ فلَم يأبه أيّ راكِبٍ بوجود المتسلِّلَين، بل وقد فقد بعضهم الأمل في احتمالية صمود المركَب المشحون، فأدبروا بقوارب النجاة كما فعل القبطان.
تشبّثا بأقرب ما قد يحميهما من هيجان البحر، وقال الذي معها: سنركب قاربًا نحن أيضًا، اتبعيني وكوني حذرة.
فكأنّ البحر سمعه ليصبّ سخطه ما إن أقدما على تنفيذ قوله، فمالت السفينةُ ميلًا فاجعًا لتُفلِت قبضتا أريام الوتَد، وتتزحلقَ عرضَ السطح فتهوي في البحر.
دونما تفكيرٍ أو تردّد أفلتَ هو الآخر وتَده، فعندَ وصوله للحافّة تمسّكَ بأحد القضبان، ولم يطُل عناؤهُ حتى أحسّ بها تعلّقت بساقه تحت الماء، استغربَ عدم محاولتها الارتفاع عن سطحه مُكتفيةً بحالتها هذه.
أمسكَ بعَضِدها وسحبها، ثم أكملت هي معاوَدةَ الركوب وساعدته على الالتحاق بها.
وجدها طبيعيّةً جدًا لو لا الخوف الذي اعتراها، بدا أنها خائفةٌ وحسب ولم يُكتَم نفسها أو تتأذّى، هي لا تتنفّس، لا تستجمع ما فقدت من هواء ولم تدفعها غرّيزة الحياة للحصول على الأكسجين حين كانت متعلّقةً بساقه، كأنَّ نجاتها تعتمد على ألا تضيع في اللُّج، وفقط.
كانَ مستعِرًا يُسارِع إلى إنقاذ نفسه معها، لكنه الآن مشْدوهٌ متجمّدٌ مُحتار، أصبح نبضُ قلبهِ قويًا.
-أتأذَّيتِ؟
ودَّ لو تقول نعم، فقُضِيَ وَدُّه. قلَبت ذراعها اليمنى لتُرِيَهُ إصابتها أسفل معصمها قائلةً: جرحني حدُّ السفينة عندما سقطت.
هو يحلم لا رَيب، هذا الجرح لم يكن سوى أديمٍ مكشوط، مع أن الكشط قويٌ وكبير إلا أنها لم تنزف أبدًا، ولم يحمرّ جلدها على الأقل. كيف ذلك؟
سُرعان ما بدّدَ غيوم أفكاره وعادَ للأهم، أخذَ يجري نحو مقصده ليتفقّد القوارب إذا ما نفدت أم لا. هناك واحد.
ضغطَ زرّ إطلاقهِ فرُميَ في الماء منتفخًا خلال عشر ثوانٍ، جعلَ أريام تقفز إليه أوّلًا فتلاها بعد تناوله المجاديف. ظنّا أن الأمان وطأَ قاربهما هو الآخر، لكن الظن لا يغني من الحقّ شيئًا. لم يكد يجذّف مبتعدًا حتى باغتتهما موجةٌ فاقت السفينة طولًا.
[١٠٠١.ك]
_
'¹'
١ أونصة = ٢٨.٣٥ جرام
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro