أميرة ومحارب ♥️
الحُلم هو ما يراه النائم ويشغل حيّزًا من تفكيره حتى لو لم يعترف بذلك، خاصةً لو كان له تأويل.
في الحقيقة حتى منذ بضع ساعاتٍ قليلة لم أكن أعترف بالأحلام أو معانيها، بل لم تكن تشغل بالي من الأساس، لكن ما حدث لي اليوم قلب هذا الرأي تمامًا.
أنهيتُ محاضرتي وقت الظهيرة شاعرة بالخمول وعدم الرغبة في إكمال اليوم، جلستُ على إحدى درجات الدرج أنتظر زميلاتي فلم تظهر إحداهن اليوم، لكن قاطع انتظاري صوت إحداهن تناديني «أميرة!» -ليتني تذكرت مليون جنيه ولكن-
التفتُّ نحو صديقتي أسماء وقد عرفتها قبل أن ألتفت إليها من صوتها الجهوري، تبدو مرتبة وأنيقة الهيئة اليوم أكثر من المعتاد، فابتسمتُ قائلة: بالطبع ستخرجين اليوم مع خطيبك!
عقدت حاجبيها متسآلة: وكيف عرفتِ؟
ضحكتُ منها ثم أجبت: الأمر ليس بحاجة لذكاءٍ خارق، مرتدية طاقمًا جديدًا، مصففة شعرك بعناية ورائحة عطرك عبقت الجامعة بأسرها.
فأومأت قائلة: أجل، سأخرج مع خطيبي بعد قليل، المهم الآن عليكِ الذهاب إلى مكتب الدكتور محمود لتختاري موضوع بحثك.
اتسعت عيناي فجأة معقّبة: أختار موضوع بحثي!
- أجل، لقد ذهبتُ أنا ومجموعة من الطلاب لنختار موضوع البحث، هو ليس اختيارًا مفتوحًا، فقط يسحب كل طالب ورقة عشوائية مطوية وهو حظه.
- وكيف كان حظكِ يا ترى؟
- كان موضوعًا عن فنون الأدب.
قالتها بتثاقل فقضمتُ شفتيّ بتوتر -أعلم حظي جيدًا- وقبل أن أعلّق بكلمة رنَّ هاتف أسماء فأشارت لي في عجالة وأسرعتْ منصرفة ولا زالت تعدّل هيئتها.
زفرتُ بضيق ونهضتُ أتجه إلى مكتب الأستاذ الجامعي، وقبل أن أطرق باب مكتبه أخرجتُ هاتفي وتفقدتُ هيئتي بكاميرا الهاتف، أعدتُ ترتيب خصلاتي السوداء المبعثرة ثم جمعتها جميعًا لأعلى بيديّ، ضبطتُ هيئتي الشبابية ثم ارتديتُ نظارتي الطبية فوق عسليتيّ.
طرقتُ باب المكتب متوترة ثم دخلتُ بخوفٍ وترقب؛ لا أستطيع توقع حظي في موضوع البحث، وبعد عدة دقائق انتظار مرت عليّ كساعاتٍ طويلة رفع الأستاذ عينيه السوداءتين متحدثًا بصرامته المعهودة: تفضلي واختاري ورقة من الصندوق الذي أمامك.
فنظرتُ داخل الصندوق فوجدتُ عددًا من الورقات المطوية، همستُ داخلي «يا ويلي من هذا الرجل وأفكاره اللعينة!»
غُصتُ بيدي قليلًا ممسكة بواحدة ثم قدمتها للأستاذ، ففتحها ناظرًا فيها ثم عاد بظهره للخلف ممسّدًا خصلات شعره البنية ثم ضبط رابطة عنقه الأنيقة وتحدّث: موضوع بحثك عن (الفن القصصي) ويجب إعطاء أمثلة لقصةٍ منضبطة وأخرى مفككة، أرشح لكِ فئة الأدب التاريخي؛ هو يليق بكِ.
طلت سعادته من بين كلماته -لا أدري ما السعادة في ذلك- دائمًا يستمتع بطلباته الغريبة، لكني لا أنكر قدراته كشخصٍ أكاديميًّ رائع، وأيضًا وسامته وأناقته اللتان لا غبار عليهما، نظّفتُ حلقي بهدوء عائدة للواقع، ضبطتُ هيئتي مجددًا كي أخفي إحراجي؛ كالعادة انغمستُ وسط أفكاري دون الانتباه لحملقتي بملامحه الوسيمة!
أومأتُ له فتابع وقد شقَّ ملامحه شبح ابتسامة: اذهبي وابحثي جيدًا... ولا تنسى السرعة والدقة!
أومأتُ مطيعةً برأسي ثم استأذنتُ وانصرفتُ وأنا منبهرة بملامحه شبه المبتسمة، خرجتُ أتجول مفكرةً من أين أبدأ! لكني انتهزتها فرصة كي لا أحضر باقي محاضراتي المملة!
بعد قليل اتخذتُ القرار متجهةً إلى المكتبة لجمع المعلومات، وبالطبع لن أجد أفضل من مكتبة الأسكندرية، بحق أشعر بالفخر أني في بقعة مميزة عندما أكون داخلها، حيث تم بناء المكتبة في موقعٍ قريب من مكان المكتبة القديمة، ويزداد انبهاري دائمًا برؤية مجموعات كبيرة من الكتب تُقدّر أعدادها بعشرات الآلاف المختارة باللغات العربية ومختلف اللغات الأوروبية والنادرة.
دخلتُ إلى المكتبة متجهةً كعادتي إلى القاعة الكبرى، المكان مبهر بحق، هادئ ومنظّم، تفقدتُ الطوابق للوصول إلى القسم المناسب لنوع البحث، تجوّلتُ وسط رفوف الكتب حتى اختارتُ عدة كتب، اتخذتُ جانبًا وجلستُ، فتحتُ الكتاب لكني لا زلتُ منبهرةً بكل ما حولي شاردةً بخيالي مجددًا وغُصتُ داخل أفكاري، مكتبة الأسكندرية القديمة والتي كانت أكثر المكتبات شهرة على الرغم من وجود مكتبات أخرى سبقتها واختلف المؤرخون حول المؤسس الحقيقى للمكتبة أغلبهم من نسب ذلك إلى بطليموس الأول (سوتير) حيث كان واسع الثقافة.
نهضتُ مجددًا لأختار كتابًا آخر، لكن تفاجأتُ بالتغيير الجذري لكل شيء! اختفت الكتب، مجموعات الرفوف، أجهزة الحاسبات، تصميم المكان نفسه والسقف الزجاجي المائل...
كان المكان متسعًا ذات أعمدة مزينة، سقفًا مرتفعًا، نوافذ طويلة مزركشة بنقوشٍ معدنية رائعة، في الواقع لا أجزم إن كانت هذه النقوش من الذهب أم النحاس الأصفر، لكن على أية حال هي رائعة، بالإضافة لتماثيل بيضاء على الطراز الروماني عند كل ركن محتضنة الرفوف المحاذية لجوانب الجدران ومليئة بأعدادٍ ضخمة من المخطوطات والبرديات الملفوفة.
تجولتُ بناظريّ فرأيت من حولي بهيئة رومانية حتى أنا نفسي مرتدية ثوبًا على الطراز الروماني، بحق ما أجمله! فستانًا أخضرًا طويلًا متسعًا أسفل الخصر بكسراتٍ منتظمة تهبط بانسيابية، بل إنه يتحرك بأريحية بفعل نسمات الهواء، كاشفًا عن ذراعيّ وفتحة معتدلة من الصدر والظهر، أشعر بلمسات النسيم ودعاباته لبشرتي، تحسستُ شعري بيديّ فوجدته منسدلًا بطوله لآخر ظهري ومتدليًا على جانبيّ كتفايّ والذي أشعر بتحركات خصلاته هو الآخر، ثم تحسستُ تاجًا رقيقًا فوق رأسي بدى من تلّمسه أنه على هيئة ورقات أغصان زيتونٍ صغيرة ومتداخلة، تساءلت داخلي «هل أنا أميرة؟»
تأكدتُ لحظتها أني الآن داخل مكتبة الأسكندرية القديمة فابتسمتُ حتى وأنا لا أعرف كيف جئتُ إلى هنا!
تفقدتُ المكان مجددًا بسعادة محملقة في النقوش والزخرفات الرائعة لكن بنظرة أكثر تفصيلًا، اقتربتُ نحو المخطوطات؛ فلديّ فضول لقراءتها ومعرفة ما فيها من العلوم والرياضيات التي لقت دفعات مستمرة للأمام على أيدي علماء المكتبة وأمنائها ومنهم (أريستارخوس) الذى اهتدى إلى دوران الأرض حول الشمس، (أيراتوستينيس) الذى تمكن من قياس محيط الأرض، كتاب (إقليدس) المعروف باسم العناصر واخترع (هيرون) الآلة البخارية وغيرها...
وبالفعل بدأت بتفقد بعضها لكني لا أفهم لغة أكثرها فأعيده مكانه مكتفية بتلمّس ملمس هذه المخطوطات، مشاهدتها وتشمم رائحتها العتيقة، لكني تفاجأت بصوت أحدهم، التفتُ فاندهشتُ مما رأيت، إنه أستاذي الجامعي في هيئة محارب روماني هو الآخر، كان مرتديًّا زي المحارب أسود اللون مزيّنًا بنقوشٍ رائعة بلونٍ مائل للحمرة وعلى صدره نقش لطائر يشبه العنقاء كما قرأت عنه في القصص الأسطورية.
وقف بمهابة واضعًا يده على مقبض سيفه، مصففًا شعره بعناية مرتديًّا تاجًا هو الآخر، تمتمتُ بشفتيّ: محمود!
اقترب مني مبتسمًا بحب، حتى صار مقابلًا لي مباشرةً، انحنى ممسكًا بطرف يدي لاثمًا لها برقة بالغة أسرت القشعريرة في سائر جسدي، ثم تحدّث: مولاتي وحبيبتي لا تكلّي أبدًا من الدراسةِ والبحث! ليتكِ تستريحين بعض الوقت! هل نسيتِ ابننا؟
قالها مربتًا على بطني فانتفضتُ فجأة ثم تمتمتُ بصدمة واضعة يدي على بطني: ابننا!
ابتسم بروعة أسقطتني في بحر سحره وأجاب محتضنًا كفي: لا أصدق أن طفلتي ستنجب لي طفلًا.
-طفلتك!
-أجل، فأنتِ طفلتي المدللة، زوجتي وحبيبتي الغالية.
قالها وقبّل جبهتي -يا ويلي من تأثيره أكاد أفقد وعيّ- لكنه احتضن خصري بقلق فشعرت ببرودة زيّه المعدنيّ الملامس لبشرتي قائلًا: ماذا بكِ حبيبتي؟ مؤكد تأثير إرهاقك وقلة راحتك، هيا من هنا لتستريحي قليلًا.
لكني لم أعقب ولا زلتُ محملقة في ملامحه الرائعة عن قرب فربّتَ على وجهي بقلق، فتحتُ عينيّ بفزعٍ إنه أستاذي محمود جالسًا جواري بالفعل!
وجدتني أتحسس سترة بذته، إنها قماشية وليست معدنية، ثم وقفتُ فجأة جاذبة يدي على استحياء، تفقدتُ نفسي بيديّ، لا زلتُ مرتدية ملابسي الشبابية من الجينز، طفتُ بعينيّ فوجد كل شيءٍ مكانه، مجموعات الرفوف، أجهزة الحاسبات والسقف الزجاجي، فألقيتُ بنفسي على الكرسيّ جالسة مجددًا، زفرتُ متمتمة ألتقط أنفاسي متوترةً: يبدو أنه مجرد حلم، فلا أميرة ولا محارب، ولا... ولا... ولا محب.
فانتبهتُ لصوت نحنحته -يا إلهي! كالعادة هذيتُ بصوتٍ مسموع- التفتُ إليه بتوترٍ مختلطًا ببعضِ الخوفِ ومزيدٍ من الإحراج، فقلت بصوتٍ متعثّرًا وسط حلقي: سأبدأ في البحث فورًا سيدي، فقط كانت مجرد إغفاءة، أعتذر لذلك، لكن...
فقاطع كلماتي مبتسمًا ابتسامة ساحرة لم أعهدها إطلاقًا، لكن لو استمرت ابتسامته هكذا حتمًا سأهيم عشقًا بأستاذي الرائع، فتحدث قائلًا: لستُ الآن بصفة أستاذك الجامعيّ، بل بصفة أخرى أتمنى أن تقبليها.
قالها بطريقة اجتاحت مشاعري ورفعت دقات قلبي لذروتها دون أن أعقّب بأي كلمة، فأكمل: أميرة، أنا معجبٌ بكِ حد الهوس، بل أني أحبكِ وأريد أن أتقدم لخطبتك.
اتسعت عينايّ ففركتهما؛ ظننتُ عودتي للحلم مجددًا، هل تحدّث عن إعجاب، حب وخطبة!
لكنه أكمل: أتمنى ألا تتسرعي وتفكري بعناية، فأنا أحبكِ بحق وسأبذل جهدي وكل مشاعري لإسعادك.
أجد الحلم يتحقق بسرعة، سأكون أميرته ويكون محاربي! لكني تفاجأت بجوابه: أجل، ستكوني أميرتي بل ملكتي وسأكون محاربك.
وضعت يدي على فمي؛ لقد تمتمتُ بصوتٍ مسموع مرة أخرى! لكن في الأخير اتسعت ابتسامتي كالبلهاء؛ لقد تحقق الحلم أم تراني لا زلتُ أحلم!
هل رأيتم كيف جرت الأمور بشكل غير متوقع؟ سيجيء محمود وأهله لخطبتي فعلًا، اكتشفتُ أن له مكانًا بقلبي ولم تكن أحلامي المتكررة به عبثًا على الإطلاق.
لكني بحق سعيدة اليوم، أتمنى أن أراه مجددًا عندما أغمض عينيّ، لكن هذه المرة لن يكون مجرد حلمًا.
تمت 💜
Noonazad 💕❤️💕
November 2020
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro