الفصل | 19
*وصل النوت؟*
مرحبا خفافيشي 😍🎊
ما تأخرت رايت!
نزلت مع انو الشروط ما تحققتش، لاني لطيفة وحنينة مثل الجنرال 😳🙏
شو اخباركم وكيف عايشين بعد رمضان 😂
الفصل الماضي ماكانش مناسب للشهر الفضيل باي شكل من الاشكال 🌚 تمنيت لو ما نزلتو، غلطت 💔 هذا مناسب بس متأخر يا ريت كان فيني بدّل بينهم
😂😂😂
في شوي اكشن أكيد 🌚😂
Enjoy 💕
-
أيا ربَّ حُبِّي، رِفقًا بقَلبي!
إنَّ فيكَ مِن الألَم ما يُبهِرِني، ويوقِع فكَّ صبوتي، كأنَّك رسولُه كُلَّما تنهَّدتُ رُبَّ طُمأنينَة أتيتَني بِما يشُدُّ أعصابِي، ويُرهِق وأساريري، كُلَّما واسيتُ مُهجَتي بأنِّي مِن أهوالِك قد غدوتُ مُحصَّنة ضربتَني بأشدَّ مِنها وافتَرشت هواك، وكُلَّما أسدَلت الحياةُ السِّتار على فصلٍ مِن فصولِ أذيَّتِك، صفَّق فُؤادِي لكَ، وما يصفِق أبوابَه في وجهِك.
بينَ آياتِ غُرورِك مِن الإعجازِ ما يكسِرُني، بل يُهشِّمُني، ولكنِّي بإخلاصٍ أُواظِب على تِلاوتِك في كُلَّ الأوقات، غيرَ قادرةٍ على إدراكِ الرَّخاءِ دونَ مُقلتيك، كأنَّك الأكسيجين الَّذي أتنفَّسُه، وربَّما الرَّجُل الَّذي أدمنتُه بينَما أبحثُ عنه.
ما دريتُ أنَّ الغيرَة نارٌ بِلا دُخَّان، بل احتِراقٌ بِلا نار، إلَّا حينَما شبَّ حُبُّك بينَ أضلُعِي، وأتَى على كُلِّ شظفٍ مِنّي، لم يردَعه فُراتُ الكِبرياءِ الرَّقراق عن المضيّ قُدمًا إلى لُبِّي، فعاضَد خفقَاتي المُختنِقة الَّتي ركَضت مِن دارِها المُشتعِلةِ، وها أنا ذا أشعُر بِها كالغصَّة في حلقي، كأنَّها إليهِ لاجِئة، بانتِظارِ معبَر الكلِم ليُفتتَح.
لكنَّا وفي اللَّحظةِ الَّتي تصيرُ فيها الكلِماتُ لزُمًا لا خِيارًا، ينصِب الصَّمتُ حواجِزه فينا، فنتوهَّمُ أنَّ النُّطقَ بعيدُ المَنال. في اللَّحظةِ الَّتي تصيرُ فيها الكلِماتُ دليلًا حاسِمًا، ورِواقًا مُنتهاهُ الخَلاص نلوذُ إلى الصَّمت، وحينَما نبني على الأسطُر ما يُبرِّئُنا، نصطدِم بأبوابِ القضيَّة الَّتي أقفلتها الحسرة، بمِفتاحِ الخيبة الوحيد!
لقد أمسَكت بيدِي وبينَ جِنانِ الحبِّ نزَّهتني، اليوم أنا أتدلَّى في هاويةِ الخيبَة، بينَما نيرانُ الغيرةِ تلسعُ قاعيّ قدميّ، تُنبّئني عمَّا ينتظِرني إن أنتَ أفلتَّها مِن أجلِ أن تذهَب إليها، هِي الَّتي ما بذَلت فيكَ ولو دمعَةً خالِصة!
مآقيَّ ثُقِبت مُنذ اللَّحظةِ الَّتي جرى فيها نحوَ مسقطِ رأسِها، كأنَّه يلتحِف القَلق، مُنذ اللَّحظةِ الَّتي أدَّت فيها شفتاه مَناسِك اسمِها بلهجةِ فُؤادِه الَّتي لا يُمكِنني أن أُخطِئها -مهمَا حفرنا لعواطِفنا، يأتِي ما يُزيح الثَّرى عن ظهرِها لتبرُزَ مِن تحتِه ولو قليلًا- وتدحرجَ دمعي حتَّى عبَّق جفنيّ، إنَّ بي بكوةٌ تسيرُ إلى حتفِها.
أفاقَني صوتُه المُرتفِع مِن سُباتِي الأليم:
" ما الَّذي جَرى بينَكُما في غِيابي؟ "
الهشيم المُتناثِر حولَ رأسِها، وعُنقُ الزُّجاجَة الَّذي أعتقته أنامِلي للتوِّ فهوى على مرأًى مِنه، كانَا كفيلين بتجسيدِ المُلابَساتِ في ذِهنِه.
شلَّته الصَّدمةُ لبُرهة، وما إن تدارَكها حتَّى بسطَ قامَته على طولِها، قدِم إليَّ ثُمَّ أمسكَ ياقة قميصي بقوَّة.
" أفقدتِ صوابَك أيَّتُها الحَمقاء؟ ما الَّذي كُنتِ تُفكِّرين فيه حينَما كسرتِ الزُّجاجَة برأسِها، أتتوقين لأن تصيري مُجرِمة، وتُرمي خلفَ القُضبان؟ "
صففتُ في جانِبِ الصَّمتِ حينَما خذَلتني الكلِمات، كأنَّها أبت الاتِّفاقَ على قولٍ واحِد، ما بِداخِلي أعظمُ مِن أن يُلخَّص في بِضعةِ أسطرٍ هزيلة!
" لَم أدرِ أنَّكِ قد بلَغت مِن التهوُّرِ الغَباء، حدَّ إزهاقِ الأرواحِ بدفعةِ حِقد... "
ما استَسَغت طعمَ اللَّومِ الَّذي سقانيه، لذلِك دفعتُ أنيتيه قبل أن تسقِيانِي المزيد، عينايَ ذاوِيتان كأنَّ الألَم أسكَرهُما، أو سكرةٌ الموتِ تنتابُهما.
" بَل بلَغتُ في الحبِّ التهوُّر، وبلَغ فيَّ الحُبّ ما لوَّثَ روحي وسوَّد الرُّكنَ الطَّاهِر الوحيدَ فيها، حتَّى صارَت تستبيحُ إزهاقَ الأرواح. "
خضَّ جسدِي ولكنَّ روحِي ما خالطَتني.
" ألا تعلمين مَن تكونُ هذه المرأة؟ هِي ابنةُ قائِد الفريقِ الأوَّل للجيش، والمُرشَّح لعمادَة المدينَة، إن عضضتِها لاكَتكِ بينَ ضُروسِ سطوتِها ما إن تخلُصَ مِنك، كلمةٌ مِنها قد تستقرُّ كالطَّلقةِ بمُنتَصف صدرِك، لا بل سترميكِ في سقَر التَّهلكة. "
بصوتٍ مُتلجلِج قُلت:
" لكنَّك ستَحميني. "
أخلى سبيلَ ياقَتي ثُمَّ انحنَى بجِوارِها، هُو الرَّجُل الَّذي لطالَما كانَ مُستقيمًا لا ينحنِي لأجلِ امرأة، إلَّا وحنَّاها برغباتِه انحَنى ليأخُذَها في حُضنِه.
" افتَحي الباب. "
بعدَما رمَّمتُ جسارَتي تمتمت بعقلٍ شاردٍ في حُقولِ.
" لا أريد. "
لم أستطِع ردعَ جسدِي حينَما عارضَ أوامِره المقيتَة، هرَعت باتِّجاهِ غُرفتِه الَّتي لطالَما شملتنا سويًّا، وجلستُ القُرفصاء خلفَ الباب؛ رِدتُ لو أقول أنِّي كذلِك تأذَّيت، أنِّي أتألَّم ألمين، أحدُهما قد طغى على جوارِحي، أشعُر بِها وكأنَّها تتشظى، أتمنَّى لو أنِّي فقَدتُ وعيي بدَل أن أفقِد يقيني، فأقتحِمَك أنتَ أيُّها المدينةُ الضَّبابيَّة الَّتي تبتلِع التَّائِهين، بحثًا عنك فيكَ، دونَ أن أدرِكك، وأتخبَّط بينَ أزقَّتِك المليئة بالمَجهول، غيرَ واعيةٍ عمَّا ببالِك.
اللَّيلَة أكتشِف خليجًا مِن الحِقدِ الأسودِ في أرضي، ما ارتَسم في خارِطةِ معرِفتي حتَّى غزا جُندُه فُؤادِي أسرابًا، حِقدٌ وكأنَّه قارَّة توارَت على أميالِ مِن مُحيطِ نفسي، بعيدًا على فِقهي، وربَّما طلعت مِن القاعِ حينَما غرِقت أقطابي الَّتي صهَرتها الغيرة، اليومَ أعلَم أنِّي ورغمَ ما قاسيتُه كطِفلة، نشأتُ كأيِّ امرأة تهوَى التملُّك.
وربَّما لأنَّ ما امتَلكته مِن عطفٍ سلبَته امرأةٌ خبيثَة هِي الحياة، بينَما أنا مكتوفَة اليدين، ما لي حيلةٌ إلَّا أن أبكي وأنوح، دونَ أن أعلَم لِم أُلتُ إلى الخواء وأُعدِمت، نشأتُ كغيرِي مِن النِّساء بذراعين صلبتين لا تنحلّان بيُسر.
وللمرَّة الألفِ أخطأتُ تقديرَ حصيلة كارثةٍ اسمُها حُبُّه، وتركتهُ يسودُ حتَّى اسودَّ بِقاعي، وما عادَ لي موطِنٌ أستأمِنه عليَّ، أهمَلتُ ما أرداهُ مِنِّي جُثَّة هامِدةً ودفَنه بينَ تعاريجِ كفِّه، مع كُلِّ غارةٍ تُمطِر بِها سماؤُه عليَّ وكُلِّ لُثمةٍ تلضِمني، تُلظِّي شراييني.
لم أقُم عن الأرض رغمَ أنَّ بُرودَتها احتلَّت كامِل جسدِي، أم هِي رجفةُ الخوفِ تهزُّني؟ ربَّما لم يكُن عليَّ الاعتِداءُ عليها، ومنحِها الفُرصَة المِثاليَّة للعِب دورِ الضحيَّة، جهلِي برُقعةِ المَعركةِ جعَلني أسدِّد خُطوةً طائِشة، حطَّتني في مرمَى النَّدم الَّذي ما توانَى في رضِّي، خُطوةٌ بقدِّ أنمُلة، كلَّفتني ماضِيًا، وآتِيًا غفيرًا.
حاصَر السُّهادُ جفنيَّ طول اللَّيل فما أبصَرا للنومِ ظِلًّا، بِتُّ أتمضمضُ علقَمَ الوجل رغمًا عنِّي، خوفًا مِن أنَّ أوانَ الأجلِ قد حلّ، أجلُ نحن، كأنَّ أحَدهم يكُبّه في فمِي. بينَ الشَّهقةِ والشَّهقَة كُنت أتفقَّد هاتِفي لعلَّه يجيئُني بمددٍ مِنه، يوفيني حقَّ الانتِظار، ولكِن سُدًى، لم يتَّصِل بي، كما لم يسبِق له وأن اتَّصل بي مِن قبل!
في لحظةٍ ما عانَقني الظَّلامُ مِن دُبر، كأنَّه صديقٌ سئِم رُؤيتِي أتهالَك أمامَه، فأفسَح لِي مجالًا للتنفُّسُ، اختَطفتني مِنه جُنودُ الشَّمسِ الَّتي اقتَحمت الغُرفَة مِن نافذتِها الغيرِ مستورة، وجدتُ ذاتِي حيثُ دسستُها البارِحَة، أوصالِي مُتشنِّجةٌ لسوءِ ما فوَّضتُها بِه، وما تفتأ أهدابي مبلولَة، كأنَّ تساقُطات شجَني ما قُسِّطَت.
حينَما دفعتُ الأرضيَّة بيديَّ أُعيلُني على الوقوفِ اشتَكت شفتيَّ الألَم، تذكَّرتُ أنِّي قد أصبتُ اليُسرى بالطَّاوِلة وأنا أقَع، للتوِّ لاحظتُ انتِفاخَها، ومُخامَرةِ البنفسجيِّ لها، لم أولِها أيَّ عِنايَة، مُذ أنَّ دواخِلي تشكو سقمًا لا يخبو، يُهوِّنُ قضيَّتَها في مَحكمتي.
قُمت عازِمةً ألَّا أُسلِّمَ نفسي للقُنوطِ لمُجرَّد ذهابِه، مُتشبِّثَة بكلِماتِه الَّتي لطالَما جدَلها بنبرتِه الخامِلة، لقد قالَ لي أنَّ مشاعِرَه لَها لن تحيَى، ولو مارَست عليهِ أنوثَتُها طُقوسَها المُحرَّمة، ليسَ لي خِيارٌ سِوى أن أثِق بِه.
بعدَما ارتَديتُ زِيّ المَدرسَة جلستُ إلى رُخامِ المَطبخ، وبينَ يديَّ شريحةٌ مِن الخُبزِ المُحمَّص، دهنتُها بالفَراوِلة كما اعتادَ أن يفعَل مِن أجلي، ولكنَّ طعمَها كانَ جافًّا في فمِي، ليسَ كالَّتي اختَلطت ببصماتِه على الإطلاق!
بعُسرٍ استَطعتُ هضمَ ما يسدُّ أتعابَ يومِي، قبلَ أن أستَجيبَ لموعِد المَدرسة الإلزاميّ؛ وسِعني التخلُّف، ولكنِّي احتَجتُ لأن أشغَل نفسي عن التَّفكير. في غضونِ دقائِق احتَضنني رِواقُها ببُرود، ولفَحتني النَّظراتُ مِن كُلِّ صوب، وكالأزَل ما ألقيتُ لأيِّهم اعتِبارًا، رغمَ رغبَتي في الشِّجار لتَفريغِ ما بصدرِي مِن همّ.
لم يكُن يفصِلُ بيني وبينَ الصفِّ سِوى الدَّرج، حينَما تقاطَعت طُرقي أنا وتشان القادِم مِن مكتبِ الأساتِذَة في الطَّابِق الأرضيّ... اختلَّت ملامحُه الَّتي عمَّها السُّكون مُنذ لحظاتٍ قِليلة، بمُجرَّد ما ولجتُ مرماه.
" سُحقًا، ما هذَا الصَّباحُ السَيّئ؟ باتَت رُؤيتُك لأغلَب أيَّامِ الأسبوعِ تُصيبُني بالغَثيان، ما رأيُكِ بالانتِقال مِن هُنا؟ "
ظننتُ أنَّه سيُفوِّتُ هذا الاصطِدامَ الصَّباحيّ، لكنَّه أبى إلَّا يحضُره.
" أتعلَمين أكثَر ما أبغِضه فيكِ؟ "
اختَلجت بخيلاءٍ غيرَ مُكترِثةٍ للشَّابِّ الَّذي يُلاحِقني، وفي جُعبتِه الكثيرُ لي.
" الفَخرُ الَّذي تعتَمرينَه رغمَ أنَّكِ أرخصُ مِن أن توفيه حقَّه، ورغمَ عِلمِك بأنِّي قد اكتَشفت جوانِبك المُظلِمة. "
دريتُ أنَّه لن يتفوَّه إلَّا بالهُراء، وكلام أعادَ تدويرَه بصيغٍ أُخَر كُبَّ في ساحةِ النّسيان، فارتأيتُ ادِّخارَ وقتِي لسماعِ أثمَن مِن ذلِك، رغمَ أنِّي لن أسمَعه... أدَّيتُ خُطًى حثيثَة، الخُطوةُ تُواكِبُها الخُطوة، بينَما الفراغُ مُستلوٍ على جنبيّ، ولكِن سُرعانَ ما دقَّ استِقراري مِن قبلِ أن أهنأ برُبعِه، وأفصحَ عن كُلِّ ما بِخاطِره.
" كُنتِ محقَّة حينَما أخبَرتني أنَّك لستِ كما ادَّعيت، بل أنا الَّذي حِكتُ لكِ سيرةً عطِرة، وألبستُها لكِ كُلَّما حللتِ في مرآيَ بشعة، ظنَّا أنَّها الحقيقةُ الَّتي تستَميتين لإخفائِها، في حينِ أنَّها الكِذبة الَّتي استمتُّ لتصديقِها، بذاتِ رغبتي في أن يفتَح الزَّمن مصارِعَه عليها لتَكونَ هِي الحقيقة الَّتي يُشيدُ بِها الجَميع. "
لم أتركه يحكي على هواهُ إلَّا ليخفّ وزنُ فُؤادِه، عسى أن تحمِله رِياحُ النِّسيانِ بعيدًا عن مُقلتيّ، إذ غدَا كالغُبارِ يُعميني، ويُعرقِلني.
" أحيانًا نبلُغ في الحُبِّ مرحلةً نستقلُّ فيها عن الواقِع، وربَّما ننبُذ فيها الوقائِع، حتَّى وإن كانت ماديَّة، كالحُمَّى عِندمَا تجعلُنا نتوهَّم ما لا وجودَ له. "
كانت هذِه المرَّة الأولى الَّتي يقولُ فيها بصريحِ العِبارَة أنَّه يُحبُّني، المرَّة الأولى الَّتي أقبِضُ فيها عاطِفةً لطالَما ابتَغيتُها، والمرَّة الأولى الَّتي أنفُر فيها مِن نِدائِها، عاجِزةً عن القفزِ في كنفِها، والترفُّه بأنعامِ الدِّفءِ فيها، لأنَّها مِن غيرِ الرَّجُل الَّذي أبتغيه.
أبتُّ الآن طمَّاعَة لأنِّي اختَبرتُ جُرعةً مِن عاطِفةً قيدَ التَّجريب، لا أدري حتَّى ماهيتَها؟
التفتُّ إليه بكامِل ثِقتي، ما جعَله يُقطِّب حاجبيه؛ ربَّما انتَظر أن أطالِعه بخزي!
" هل أنتَ مجروح لأنِّي أسوأ مِمَّا يصِفونني؟ "
بلَّل شفتَهُ السُّفلى بطرفِ لِسانِه، ومِن فمِه تصاعَد رمادُ السُّخطِ شفافًا مُفتضحًا جوابه، لكنِّي أبصرته، ولأنِّي أردتُ أن أحرِقَني فيه قُلت بجفوة:
" أخبرتُكَ مُنذ البِدايَة ألَّا تبنِيَ عليَّ أيَّ توقُّعات، لستُ أرضًا طاهِرة، لذلِك لم أحاوِل ولو لمرَّة دفعَ التُّهم عنِّي، كي لا يتَهافَت النَّاسُ مِن حولي حاملين باقاتِ الصَّداقَة، لأنِّي أرى إلى ما وراءَ البِدايات، وأعلم أنَّها ستذبُل. "
" يُمكِنك التوقُّف عمَّا تفعلينَه، سأُساعِدك. "
صفعتُ يدَه الَّتي أبحَرت نحوَ كتِفي، واكتظَّ وجهِي بالرَّفض.
" وهل وشيتُ لكَ أنَّه لا يمُكِنني التوقُّف؟ كُلُّ ما في الأمرِ أنِّي لا أريدُ التوقُّف، لقد انتَهجنا غيرَ الطَّريقِ المُتَّفقِ عليه، وكبُرنا فما عادَت المضايق الَّتي أتينا مِنها تسعُنا. "
" كفاكِ استِهتارًا، أنتِ تعيشين حياتَك مرَّة واحِدة. "
أقدمتُ على الانصِراف أوَّلًا، في كُلِّ جِدالٍ أزدادُ يقينًا أنَّ مُحاوَلاتنا عقيمَة، لستُ بحاجةٍ لشخصٍ يُريني ما هُو الصَّوابُ وما هُو الخطأ، بل إلى شخصٍ يتفهَّم خطَئي.
" مينِّي. "
أنامِله الَّتي سوَّرَت مِعصمِي أيقَظت آلامَه الخامِدَة، وما دامَ صُمودِي إلَّا للحظاتٍ محصيَّة قبل أن تنفلِتَ آهاتي، سويًّا وعبرةً نضجَت كدمعَة.
" أنتَ تُؤلِمُني. "
" أتبكين؟ "
حاولتُ نشلَ يدِي مِن قبضتِه، لكنَّه كانَ الأسبَق إلى تطعيمِ بصرِه بخطبِها، حالتُها المُزريَة فلقَت السَّوادَ الَّذي وشَّح مُحيَّاه، وترقرق القلقُ بينَ تقاسيمه، رغمَ أنَّها قد شهِدَت فصلًا ناضِبًا، ما سقى ثراهُ في حضرَتي ولو بصُبابَة.
" كيفَ آذيتِ نفسك، بل ولِماذا لا أرى أيَّ لمحةٍ عن مُداواتِك لها؟ أيعقَل أنَّك أهملتِها؟ "
وفي أوهَن حالاتِه حرَّرتُنِي مِن قيدِه.
" غيرُ مُهمّ. "
لم أعتقِد أنَّه ورغمَ ما تراكَم فيهِ مِن غلٍّ تِجاهي سيُنصِف عواطِفَ مُلحِدة، ويلحَد المسافَة فارِضًا عليَّ اقتِفاءَه دون حُجَّة.
" ستُرافِقينني إلى المُمرِّضَة. "
باءَت كامِل مُظاهَراتي بالفَشل؛ لم يُنفِّذ إلَّا ما أوحى له بِه عقلُه، وجرَّني إلى غُرفَة المُمرِّضة، مِن بناتِ الطَّابِق الأرضيّ، وتحديدًا رُكنه الشرقيّ. أملتُ ألَّا نعثُر عليها هُناك مُذ أنَّ الصُّبحَ ما يزالُ في ريعَانِه، ربَّما لم تأتِ بعد، غيرَ أنَّها استَقبلتها بسحنةٍ مُشرِقة، طُرِحت على السَّريرِ رغمًا عنِّي، وعايَنتي باهتِمام، أُجبِرتُ على سماعِ تذمُّرِها حيال غضِّي الطَّرفَ عن إصابَتي، أمَّا أنا فخبَّأتُ انكِساراتِي الجوفيَّة.
في لحظاتٍ يائِسة، نتوهَّم أنَّ كفَّ كِبريائِنا العظيمِ قادِرٌ على حجبِ أتراحِنا عن العيان، كما نتوهَّم أنَّا عُظمَاء حينَما تحجُب أكفُفنا الضَّئيلَة القَمر للمُتعَة، لكِن حتَّى وإن لم نرَه فهُو يرانا، وحتَّى وإن أخفيناهُ عنَّا تظلُّ أشعَّتُه تُطارِدُنا مِن زُقاقٍ لآخر!
كذلِك ما غابَ عن تشان النَّكبةُ الَّتي أفجعت قلبي، رغمَ جهلِه عن ماهِيتِها، وها هُو ذا يجلِس بِجواري، بعدَ أن أغمَد أحقادَه إلى أمَد.
" ما عهِدتُك بهذِه الهَشاشَة، لاشكَّ وأنَّك تمرِّين بأوقاتٍ عصيبَة برَتكِ، غمامُ الهمِّ يسفُل جفنيك، وأخاديدُ الكرب محفورةٌ على وجهِك. "
أقسمتُ ألَّا أنحازَ إليه، ولكنَّ الذِّكرى دحَرتني نحوَه، وفي بُؤبؤيه السَّوداوين تهاويت كأنِّي أُحاوِل إيجادَه فيه رغمَ أنَّ لا أثَر لهُ سِواهُما؛ لقد سألَني ذات يومٍ بعدَ أن قرأ البُؤسَ فيّ ما إذا كُنت أمرُّ بأوقاتٍ عصيبَة. قوَّس الحنينُ ثغري، وتمتمتُ كصريعة.
" ما بينَنا أمتَنُ مِن أن ينقطِع مهمَا كانت الظُّروفُ الَّتي تقطعُه ثقيلَة، ربَّما نحنُ مُجرَّدُ صُدفة، نبَتت على سفحِ الزَّمنِ، ربَّما وُلدنا مِن عدَم لكنَّا لن ننتهِيَ إلى عدَم، لن نتلاشى كقوسِ المَطر ما إن يصفُوَ الجوّ. "
بخيبةٍ تنهَّد وأثيرُ عينيه الَّذي تسكُنه ألفُ صيحةٍ تحطَّمَ بالجِدارِ قُبالَته، جِدارٌ خُمريُّ يُؤوي ساعَة حائِطيَّة نبَّأتنا أنَّا مُتأخِّران.
" أجزِم أنَّ لذلِك الرَّجُلِ دخلًا فيما تُعانينَه، ولكنِّي لن ألعَب دورَ وليِّ أمرِك، وأنهاكِ عمَّا تخطِّينَه في سجلِّك الحياتيّ، بالنِّهايةِ أنتِ قادِرةٌ على التَّمييزِ بينَ ما هُو صالِحٌ وما هُو طالِح، واختِيارُك له يعني أنَّك جاهزةٌ لحصدِ الألَم. "
ما لبِث وأن كسَر الحاجِز الَّذي شيَّدَه بينَه وبينِي، لئلَّا ألمَح انهِياراتِه، فأُكفكِفُها بنظراتِ الشَّفقَة ربَّما، وللمرَّة الأولى مُنذ أمدٍ يُخاطِبُني بعقلانيَّة.
" عامِلي نفسكِ بقدرٍ مِن الاحتِرام حتَّى تستحِقِّيه، كُفِّي عن تحقيرِها لمُجرَّد رغبتِك في تخطِّي شبَكةِ المُجتَمع خِشيةَ أن تعلَقي، وتتعلَّقي. "
كذلِك ارتَحلتُ إلى وجهه بعدَ فُراقٍ طويل، وفي متاعِي بسمةٌ سقيمَة.
" ألم تقُل مُنذ قليلٍ أنَّك تكرهُ كِبري، وكيفَ أتمشَّى باختِيالٍ رغمَ أنَّ ثِيابي تتستَّر عن جرائِم ذكوريَّة شنيعَة؟ ألست تُناقِض نفسَك؟ "
ظلَّ يُحدِّق بِي مُستصعِبًا القول، لكنَّه انتهى إليه.
" الموضوعانِ مُختلِفان، لأنَّكِ بحدِّ ذاتِك مُفارَقة. "
في الخِتام زمَّ شفتيه، ومسَّحَ كفَّاه على فخذيهِ كأنَّه يُحاول إعدام حديثٍ مُجرم، ثُمَّ نهضَ عن السَّرير، ومِن الأعلى شاهَدني.
" سأمضى لكِ على هُدنَة ريثَما تستَرجعينَ قواك للردّ، ووهَج الغُرورِ في سِردابيكِ لمنحي الحقَّ في الهُجوم، فهَذا الجانِب مِنك لا يبدُو مُتفقِّهًا في فُنونِ النِّزاع، ومِن غيرِ العدلِ أن أتقاوى على شخصٍ جريحٍ أيٌّ كانَ ما بيننا. "
ليتَ عواطِفنَا تميلُ لمَن شرَّع مصارِعه على أهبةٍ لاستِضافتِها بكُلِّ قناعَة، ليتَها ما كانَت تهَوى الأبوابَ المُغلَقة، والشَّفرات العصيَّة على الفكّ، ليتَها ما هوَت المُجازَفة، واجتِياز ألغامَ الكِبرياء بعفويّة، كأنَّ الحُبَّ يهوى التَّعذيب، أمَّا الألبابُ فماسوشيَّة تهوى الذُلّ والرُّكوع، رغم أنَّها لا تنالُ في المُقابِل سِوى الوجيعَة!
مِن سجيَّة البَشر النَّظر إلى الآفاق، كأنَّهم إذ ربوا عن الأرضِ بضعةً بوصاتٍ اشمئزُّوا مِمَّا جثا عِندَ أقدامِهم، واستحلُّوا المُحال.
طوَت الأيَّامُ بعضَها دونَ أن أُحرِّك ساكِنة، لم أعِشها بل راحَت هدرًا، وما أفتأ في ذاتِ الصَّفحةِ الَّتي خلَّفنِي فيها كثكلى ترثي فلذةَ كبدِها على مرِّ السَّاعات، لا تُحسُّ بالشَّغفِ لانتِهازِ عُمرِها، ولا بالطَّاقَة للإطراف... يومٌ فاثنان، يتيمان بِلا وليِّي، دونَ أن يسأل أو يتَّصِل، أو حتَّى يُراسِلني ويطمئِن ذاتي المُهتاجَة، خِلالَها بلَغ المنزِلُ في الوحشةِ أقصاها، والوحدة مِن الوحشيَّة ما كادَ يغتالُ أنفاسي في كُلِّ ليلة مُظلِمة.
وها هُو الزمنُ قد استلَّ ثالِثَ صفحةٍ عذراءَ مِن الغِياب، وراحَ يُدنِّسُها بالعَذاب، شطرٌ مِنها امتلأ بالسَّواد، وشمسُ السَّماءِ تُحابِي المسَاء، دوامِي المدرسيّ على وشكِ الانتِهاء، لم استَوعب مِن المعلوماتِ مِثقالَ ذرَّة، رغمَ أنِّي عوَّلتُ على الاجتِهادِ لأنساه، ومسكتُ القَلم بينَ أنامِلي، حتَّى أنَّه داعَب الورَق لهُنيهَة، لكِنَّه سكن.
خِلال ذلِك الصَّمتِ المُهلِك، تناحَرت الأفكارُ على مُلكِ خاطِري، تُشيدُ بنفسِها أن تبنِّيني فإنِّي بمُنجِدتِك مِن وحشةِ الوجد وألسِنة الغيرة، ومُذ أنِّي استَبعدتُ وضعَ كِبريائِي على المحكِّ اصطفيتُ لفتَ انتِباه بطريقةٍ مُلتَويَة.
تزامُنًا ودندنةِ الجَرس المُحبّبَة للآذان، وانتِفاض الطُّلاب حازِمين أغراضَهم، بطريقةٍ عدَّها الأستاذُ كيم الَّذي ما يفتأ على المِنبر قلَّة أدب، هُو الموعِد المُناسِب للشُّروعِ في خطَّة استِدراجِه، خبطُتُ طاوِلتي ووقفت مُسترعِيةً انتِباهَهم.
" استَمعوا إليَّ جميعًا. "
حينَما حصدتُ ما سعيتُ إليه قُلت:
" تعلَمونَ أنِّي قد حصَلتُ على وليِّ أمرٍ ثريّ مُنذ أشهُر، أو كما تُسمُّونَه راعٍ، لم تتسنَّى لي الفُرصَة للتَّباهي، لذلِك سأدعوكُم إلى الغداء في مطعمٍ فاخِر بعدَ المَدرسة، لديَّ الكثيرُ مِن الأموال، فلا تقلقوا. "
أُلجِمت ألسنُ زُملائي، وتبادلوا نظرات الدَّهشة، لأنِّي أدعوهم على الغَداء، منحتُهم الكثيرَ مِن الوقتِ قبل أن أستفهِم.
" ستأتون؟ "
" بالطَّبع، لن نُضيِّع مِثل هذِه الفُرصة. "
أبدا الجميعُ تأييدَهم ليونهو الَّذي بادَر بالردِّ على عرضي، وشبَّت الفوضى مرَّة أُخرى؛ فيما اكتَفى الأستاذ جونغ إن بالتَّحديق.
إن لم ترِدهُ فاتورةُ ما أنفقته مِن البِطاقَة فجونغ إن سيتكفَّل بوِشايتي إليه.
بعدَ تخلُّصِ وقتِي مِن قيودِ الدَّوامِ سقتُني إلى الميتَم على الأقدام، رغم أنِّي جاهلةٌ عمَّا طرأَ عليهِ، وما إذا كُنت سأُلاقِي الرَّجُل الَّذي تلطَّخت صورتُه بناظريّ ما إن احتَلم فِكري، رجُلٌ استغلَّ بَراءَتي وحاجَتي ليملأ ثُغورَ هوسِه!
رسوتُ على مسافةٍ بيِّنةٍ مِن مصراعيه الحديديَّين الغليظَين والذِّكرى تُخافِتُ أذنيّ، عن كُلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ عايشتُها، تسعى لتفويرِ غضَبي، كالأيَّامِ الخوالي، لكنَّ ما اختَلجَ صدري لم يكُ غضبًا، بل أسًى، أسًى على طِفلةٍ دُفِنت في جدَث الواقِع بِلا حقِّ، وندوبٍ تنبِض، كالمُرورِ بجِوارِ حبيب خوَّان، لفَّق الوُعودَ بإتقان، كإلقاءِ نظرةٍ إلى الوَراءِ على خراب أيَّامٍ لا حولَ لها ولا قوَّة. يسوؤُني العُمر الَّذي قضيتُه هُنا.
سُرعانَ ما نفثتُ غُصَّتي في زفرةٍ عميقَة، وخُضتُ غِمارَ هذا المبنى، أدوسُ الأمسَ الشَّائِك لأجلِ سلامةِ غدِي، لاحظتُ أنَّه قد خضَع لبعضِ التَّرميمات، لعلَّها تبرُّعاتُ الجِنرال قد آتت أُكلها أخيرًا. تريَّثت أمامَ مكتبِ المُدير لفترةٍ موجَزةٍ قبل أن أقتَحمَه بِلا استِئذان كالعادَة، لكنَّ مَن وجدتُه مُستويًا على الكُرسيِّ في صدرِ الحُجرَة ليسَ هُو، بل المُربِّيَة جيسِّي، الَّتي تخضَّبت تعاريجِها الفتيَّة بالدَّهشة حالَ قِيامِها.
" كيم مينِّي؟ ما الَّذي جاءَ بِك إلى هُنا بعدَ كُلِّ ذلِك الوقت؟ "
سألتُ بينَما عدَستاي تتخبَّطان ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال.
" أينَ المُدير؟ "
" لقد استَقال مُنذ أشهُرٍ سحيقَة، وسافَر إلى بوتشون، قالَ أنَّكِ السَّببُ في تدمُّر مسيرتِه المهنيَّة لذلِك يُفتَرض أنَّك على معرفةٍ بِما أصابَه. "
اهتَديت مُباشرة إلى أنَّ للجِنرال علاقة في اختِفائِه المُفاجِئ، هُو الَّذي تعدَّى طموحَه عنان السَّماء لن يتخلَّى عن هذا المنصِب بسُهولة... لقد رفرفَ قلبي مُجدَّدًا بسببِ الجِنرال الغائِب، رجُلٌ لم يبحث عنها مُنذ أيَّام.
" على كلٍّ، أنا لم آتِ لمُناقَشةِ سيرتِه مُذ أنَّها تُصيبُني بالغَثيان. "
دنَوتُ مِن المَكتب بخطواتٍ وئيدَة.
" أريدُ تقديمَ دعوةٍ إلى الغَداء في مطعَم، بغانغنام. "
" وما المُناسبَة؟ "
" للاحتِفالِ بعُثوري على راعٍ. "
لمحتُ التردُّد في نظراتِها، فأضفتُ بغُرور لعلِّي أُطفِئه:
" لن تُريدي تفويتَ وجبةٍ فاخرةٍ مجَّانيَّة، ما كُنت لتحلُمي بنيلِها حتَّى، كما أنَّ الأطفالَ سيُسرُّونَ بهذِه الهديَّة. "
كُلُّ ما ينقُصني هُو حجزُ أغلى مطعمٍ في المنطِقة!
-
في مُستنقعٍ مِن الانتِظارِ الآسِن، صلَّيتُ لو يُزهِر كزنبقة أمَل.
يُقالُ أنَّ الحُبَّ عذبٌ بمَرارتِه على لِسانِ الشَّوق، كلَّما تعتَّق ازدادَت لذَّتُه، وأسعَد لحظاتِه هِي تِلك الَّتي تَلي حرائِقَ غِياب قاهِرة، لحظة الخُمودِ حينَما يُوافيه اللِّقاء، كارتِشافِ الماءِ على ظمأ شديد، لكنَّ هذا الانتظار يُضاهي الاستِعار، لا للهفة ثائِرة بل لوجل بحت، أشعُر أنِّي غدوتُ خاوِيةً إلَّا مِن رُفاتِي، وهُو أثقَل مِنِّي!
وكما انقَلبَ عُرسُ الحبِّ بداخِلي إلى مأتمِه فجأةً، ومواويلُ الوِصالِ إلى عويل فِصال، يكتسِي سرابيلِ غيرة، انقلبَت البسمة إلى عُبوس، والامتِلاء إلى خواء، بينَما أُعدُّ الثَّوانِي لمجيئِه، واكتِحال جفنيّ بمرآه، لكنَّه ظلَّ غائِبًا.
باتَ الهاتِف بجِوارِ أُذني على أعلى نبرةٍ لهُ إن هُو دقَّه، بالكادِ استَلقى جفنايَ على قاعيهِما طلبًا لقسطٍ مِن الرَّاحَة، وها هُو ذا الصُّبح قد انبلَج وهبطَ ليلُ اليأسِ على أُمنيَتي، أدركتُ أنَّ خطَّتي فشِلت، ربَّما ما أنفقتُه لا يُساوِي قِرشًا في بحرِ ما يملِكُه، وربَّما موازينُ المُترفين كغيرِ موازينِ المحرومين، لذلِك لم يهزَّه نُقصانُه!
انهَضم مِن عُمرِ اليومِ نِصفُه وأنا في الثَّانويَّة، فالأسبوع ما يفتأ في بِدايتِه، أي أنَّ عُطلَتي بعيدةٌ عن مُتناوَلي. لم تزِدني بادِرتي اللَّطيفة كما نعتوها إلَّا شُهرة، لم أخَل أنَّ الأموال كالسَّالبِ، تُضربُ بالسَّالب فتُنجِب موجبًا!
بينَما أنا في طريقِ العودَة إلى المنزِل، ويدايَ مُتمسِّكتان بحزاميّ حقيبَة ظهري، سمِعت هديرَ سيَّارة ارتَكنت للتوِّ بجانِب الرَّصيفِ الَّذي يحتضِنُ خُطواتي الرَّتيبَة، يليه صفقٌ للباب، قبل أن يغصَّ ناظريَّ بِه، قادِمًا ناحِيتي.
اندَلع صوتِ بحُرقةٍ ما إن ولَج مداري.
" أخيرًا اهتَديتَ إلى ما نسيتَه وراءَك مُنذ أيَّام، ولكِن ما ذكَّرك بي، أنتَ الَّذي بخلتَ حتَّى بالسُّؤال عمَّا إذا كُنت بخيرٍ أم لا؟ "
تعدَّى كلِماتِ الشَّوق الَّتي لا ريبَ في أنَّها قد ربَت بتلِّه، أو ذلِك ما رجوتُه، وأدنَى هاتِفه مِن وجهي، يعرِضُ عليَّ رِسالةً ما.
" ما الَّذي أنفقتِ كُلَّ هذِه الأموالِ لأجلِه؟ "
" كِدتُ أصدِّق أنَّك لن تلحَظ ما هدمتُه مِن جِبالِ ثرائِك الشَّاهِقة. "
تظاهرتُ بالتَّفكير، غير أنَّ الرَّجفةُ الَّتي رقَّصت أعالِيَ شفتِه حثَّتني على البوحِ، قبلِ أن يضمحلَّ آخِر بصيصٍ لصبرِه.
" لقد دعوتُ الصفَّ إلى المطعَم مساء البارِحة، كذلِك إخوتِي مِن المَيتم، لأنِّي شعرتُ بالوحدة، لقد بلَغ عددهُم أجمعين حوالي الأربعين فقط. "
ارتَخت عُقدةُ حاجبيه، واجتاحَه الغُموض.
" دعوت الصفّ والميتَم أجمعين لأنَّكِ شعرتِ بالوحدة؟ "
أفلت ضحكة مُخيفَة زعزعت أواصِري، وبثَّت مقلتاه وعيدًا بالويل والهلاك، قبل أن تحطَّ يدُه على الجانِب الأيمَن مِن رأسي... شعرتُ بأنامِله تنكمِشُ حولَ حُفنةٍ مِن خُصلاتي، بودٍّ مغشوش، حافَظت عليهِ شفتاه.
" أتتعمَّدين استِفزازي؟ "
" على الإطلاق. "
سُرعانَ ما تدارَك سُخطَه وأجارَني مِن العِقاب، معَ أنَّه ليسَ رجُلًا ينسى.
لم أكُ مستعدّةً لأدَعه يذهب، ووسطَ خوائِي لملمت ما استطعتُ عليه مِن كلِماتي، ثُمَّ قُلت بنبرةٍ عابثة:
" أنتَ رخَّصت لي استِخدامَ بطاقة الائتِمان كيفَما أشاء، لقد أصغيتُ إلى كِبريائِي لوقتٍ طويل رغمَ رغبَتي الماسّة في الإنفاقِ مِنها، لذلِك قرَّرتُ اتِّباع طَمعي، بالنِّهاية أنتَ تحصُل على رحلاتٍ مجَّانيَّة إلى الانتِشاء! "
طغى صمتُه على ضِفافِ الوقت حتَّى أغرق صبري، أجهلُ ما الَّذي يملأ فِكره، ولكنَّ قبضتاهُ المُعدَّتان تبوحانِ بالغضَب الَّذي يعتَريه، أمهلتُه المزيد، وحينَما أهدرَه في التَّحديقِ بي دونَ أن ينبِس ببنت شفة، أجلتُ يدي على صدرِه بجُرأة.
" لماذا؟ أغاضِبٌ لأنِّي صرفتُ الكثيرَ مِن الأموال في أمسيةٍ وحيدة؟ أم لأنِّي خدشتُ زوجَتك الغاليَة، هِي المِسكينَة الَّتي راودتك بنيَّةِ الصُّلح؟ "
لحَّفت ثغري بابتِسامةٌ مثقوبة، لعلَّها تُواري خيبتي.
" أما تزالُ على قيدِ الحياة؟ "
ألقى القبضَ على يدّي ثُمَّ لواها غيرَ مُكترثٍ لِما لحِق بي مِن ألم.
" بينِي وبينَك شبرٌ مِن الصَّبر فحاذِري لهجَتك، لن أرضى بأن تُخاطِبني نكرةٌ مِثلُك كوصيَّة عليّ، ما احتَويتُكِ إلَّا شفقةً على ما صنعته بِك الأيَّام، وبِذاتِ الكرَم الَّذي انتَهجتُه وإيَّاكِ قد أصيرُ بخيلًا وأقفِل أبوابِي بوجهك، بذاتِ اللُّطفِ الَّذي رأيتِه مِنِّي، يسعُني ركلُك بعيدًا عن دربي كحصى، إن واصلت عرقَلتي..."
تهاوت ضِحكةٌ مُختنقةٌ مِن قمَّة ثغرِه.
" هذا ما قد ينتُج حينَما تُعامِل الحصَى وكأنَّها جوهَرة! "
ما الَّذي توقَّعتُه مِن رجُلٍ كاسِر، لا يهتمُّ سِوى بإخراجِ كبريائِه مِن المُفاوَضات بأقلِّ الخسائر؟
لا أدري ما الَّذي يودُّ سماعَه مِنّي ليُطلِق سراحي، ربَّما اعتِذار عن سفكِي لأعصابَه، اعتِذارٌ لن ينالَه مِنِّي مهمَا تجبَّر... فتَّشتُ في أدراجِي عمَّا أُقايِضُ بِه حُريَّتي، فما وجَدتُ سِوى اعترافات جوهريَّة صادِقة، منحتها له شفتَاي بقهر.
" بينَ قُبورِ الماضِي نبَعت، لفَظكَ الزَّمن في أيَّامِي كأنَّك غُصَّة خنقته، لملمت أنفاسِي المُتساقِطَة، وخفقاتِي الضَّائِعة، حتَّى شعرتُ أنِّي أقضي ما فوتُّه مُنذ أمد، أُقرُّ بأنَّك نحتَّني كُلَّما هوت أنامِلُك عليّ، أنتَ الَّذي صنَع مِنِّي امرأة عندما مرَّ الجميع بجوارِي مُرور الكِرام، ربَّما تماديتُ في توقُّعاتي. "
توجَّب عليَّ أن أتماسَك، وأواري الانكِسارات في نبرَتي الَّتي تُخزِّن أكثَر مِن بكوة، لأناظِره بكِبريائِي المعهود، كأنَّ شأنَه مِن شأني، رغم أنَّه أرفَع.
" ولكِن لا تظنَّ أنَّك ملاذِيَ الوحيد مِن دونِك أضيع، كما تعلَم تشان رهنُ حُبّي، وسيُنفِّذُ كُلَّ ما أرجوه ليحظى بِك. "
رغمَ أنَّ أبوابي مُواربةٌ على حقيقَتي المُحطَّمة ظلَّ ساكِنًا ساكِتًا، بمُجرَّد ما ارتَخى وثاقُه حولَ مِعصمي استَرجعتُه.
" عُد إلى أحضانِ زوجتِك ولا تفكِّر فيما قد يحلُّ باليَتيمة الَّتي أغدَقت عليها بشفقتِك حينَما تلفِظُها يداك، لأنِّي أقوى مِن أن أموتَ بسَكتةِ حُبّ. "
استَثمَرت كامِل قواي في الرَّكض، حتَّى غابَ عن أُفقي كالشَّمسِ في أواخِر كُلِّ يوم. أجهلُ إذا كان سيُبعثُ لي مِن رمادِ هذِه الانتِفاضَة، إذا سيتناسى غضَبه مِنّي، شعرتُ بالنَّدمِ لأنِّي ما استَبحت إزهاقَ المسافةِ بينَنا وإحاطته بذراعيّ كما اشتَهيت، أكرَهُ كِبريائي حينَ يتغلَّب عليَّ أمامَه، ويُفقِدني الفُرصَ السَّانِحة.
ربَّما غرَّني طمعي في أنَّه سيلحقُ بي هذِه المرَّة لو انسَحبت، فطاردتُه نحوَ سرابٍ حالَما صبوتُه اضمحلّ، هُو لم يلحق بي.
عِندما أظلَم الكون بالخارِج مشابِهًا للكونِ بداخِلي، تأهَّبتُ للنَّومِ على سريرِنا المُشترك مُرتديةً أحد قُمصانِه البيض الَّتي تفوحُ مِنها رائِحتُه، واحتضَنت وِسادَته المُشبَعة بِها، قبلَ أن يغفُوَ لي جفنٌ، وصَلتني رسالة.
- لننفصِل، غادِري منزِلي."
-
أتساءَل لِم لا يفوحُ عن لِسانِي سِوى الكلِم الكريه، ولِم لا يُعبِّئ ثكناتِه سِوى رشَّاشات الصَّمت، معَ أنَّه كالسُّوقِ يضجُّ بِما هُو باهِر لأنثَى انتِقائيَّة مِثلِها... لعلِّي أخليتُه مِن كُلِّ ما هُوَ ثمينٌ حتَّى إذا جاءَت إليَّ ولَّت خائِبَة.
استَغرقَ مِنِّي الشِّفاءُ مِن الماضي أقساطًا عظيمَة مِن عُمري وما تفتأُ نُدوبه فيّ، وبعدَ أن تجاوزتُ ضعفي أقسمتُ ألَّا أضعفَ لأجلِ أحدٍ مُجدَّدًا، أقسمتُ ألَّا أُسلِّم ودِّي لامرأة، أو أن أرهَن جوارِحي مُقابِلَ قُروضٍ مِن النَّشوة، لكنَّها جعلَتني أحنِث بوعودي، إذ ضعفت، وأذِنتُ للخوفِ بالتسلُّل بينَ أضلُعي، وقَبله الانِجذاب.
والآن لا يسعُني التحرُّر مِن ذِكرياتِ ليالينا الَّتي التفَّت حولَ عُنقي كالأفعى، وهِي الكُرسيُّ الَّذي يُبقيني على شفا الحياة، لو انسَحبت مِن أسفَل قدميّ لغرقتُ في الظُّلماتِ مرَّة أُخرى، لكنَّ رغبَتي في مُعاقَبتِها فاقَت رغبَتي في ضمِّها، ولطالَما ميَّزَ فُؤادي كِبريائِي على رغباتِ نفسي، رغمَ أنَّهُما ولداه، خفقاتُه تسري فيهِما.
بألفاظِها الطَّائِشَة كسَرت نوافِذ صبري، وبمشاعِل التمرُّد في مُقلتيها أضرَمت حفيظَتي، فتآكلت صحائِفِ أيَّامِنا وما رأيتُ إلَّا ما بينَ كفيَّ، لو أنَّها رفَعت أمامِي رايَة النَّدم لأعدتُ النَّظرَ بشأنِها، ولاستَبحتُ نِسيانَ خطيئتِها، ليسَ لأنَّها تعدَّت على امرأة تكونُ زوجَتي، فأنا أكثَر شخصٍ يتسلَّى برؤيتِها تتوجَّع، بل لأنَّها تطاوَلت عليّ، وهدَّدتني برجُل... نجرحُ حينَما نشعُر أنَّنا على أعتابِ الخسارة ولو كانت مُجرَّد وهم.
تركتُها ترحَل ليسَ لشيءٍ سِوى لأنَّ وقتِي ضيِّقٌ لا يسَعُ النِّزاع، وهِي ليسَت امرأةً قد تتَنازَل مهمَا دمغت الأسباب، حتَّى وإن رأتني عازِمًا على دحرِها دون أن أرأفَ بِها أو بنفسي الَّتي تجذَّرت فيها، وأدبرتُ إلى المَبنى الَّذي لمَّ شملي بزوجَتي في الآوِنَة الأخيرة، لا يرقى أن يُسمَّى منزِلًا حتَّى، تحتَّم عليَّ حِفظُ إطارِ المِثاليَّة الَّذي يُحيطُ بصورتَنا الباليَة، صورةٌ تُناجِي أن تُدفَن بينَ طيَّاتِ النِّسيان، أمامَ العَيان!
مُنذ أن وعَت مِن غيبوبةٍ ما دامَت إلَّا ساعاتٍ محسوبة والزُّوَّارُ يتهافَتونَ على المُستَشفى وكأنَّها على فِراشِ الموت، أمَّا الآن وبعدَ مُغادرتِها لهُ بإذنِ الطَّبيبِ الَّذي شخَّصَ رضًّا طفيفًا لا يستحقُّ كُلَّ هذِه الضجَّة، فمَن فوَّت عرضَ مُحيَّاهِ يزورُنا في البيتِ، لذِلك مِن المُحالِ أن أتملَّص دونَ أن يُشكَّ بأمري، لاسيما قائِد الفَريق.
ما إن دَلفت حتَّى لطَّخَت هيئتُها مُحيطيّ، رأسُها مُضمَّدةٌ بشاشٍ نظيف، وملامِحُها مردومةٌ بطبقةٍ رفيعةٍ مِن مساحيق التَّجميل، أمَّا بُنيتُها فمُحتميةٌ بفُستانِ نومٍ قصير زهريِّ اللَّون، لطالَما أشعَلت أفرانَ الجمالِ في حضرتي، توَّاقَةً إلى اللَّحظةِ الَّتي ينضُج فيها افتِتاني، لكنِّي عصيٌّ للغايَة، لا تخترِقُ قِشري الحرارَة.
وضعَت يديها على صدري وابتَسمت بسماجة، كأنَّها صدَّقت الكِذبَة الَّتي نُجسِّدُها مُنذ ثلاث أيَّامٍ أمامَ الطَّبَقة الرَّاقية.
" لقد خرجت عن توقيتِك المُعتاد، أكانَ العمَل كثيرًا اليوم؟ "
نحنُ فُرادى، لا ضرورةَ للادِّعاء، ورغمَ يقينِها بأنَّ قُربَها مِنِّي لا يروقُني، تمادَت في لمسي، فيما أنا ساكِن أمهِلُها.
" ما رأيُكَ بأن نذهَب إلى المَزرعة للاستِجمام، فآخر مرَّة لم تمضِ كما خطَّطت؟ "
غرِقَت عدستايَ في غوريّ جفنيّ بينَما أُداري غضَبي، لكنَّه عانَق زفراتي. كانَت إن ها معصوبةً بأحلامِها، لم تلحَظ أنِّي على حافَّة الانهِيار، وما يفتأُ فمُها مقيَّدًا بابتِسامةٍ ثقيلة.
" بإمكانِك تأجيلُ أعمالِك إلى وقتٍ لاحِق، رُتبتُك تُخوِّلكَ الاستِهتار قليلًا، وسوفَ أتنحَّى عن إدارَة الشَّرِكة بإجازَة مرضيَّة، أظنُّ أنَّا بأمسِّ الحاجةِ إلى الخُلوة، خِلالَها نُصفِّي حساباتِنا السَّابِقة، ونفتحُ صفحةً جديدَة. "
ظنّت صمتي تأييدًا، فهمَّت يداها تُشيحانِ سُترتي عن كتفيَّ، تُقلِّد غيرَها مِن زوجاتِ المسؤولين، لولا أنِّي أعقتُ مِعصمَها بكفِّي.
" لا تفهميني بشكلٍ خاطِئ فما أوليتُك وقتِي ولاءً لحُبِّك، بل لأنَّ في ذلِك مصلَحتي، بمُجرَّد ما تصحِّين، سيعودُ كلُّ شيءٍ إلى نِصابِه. "
في الفلك رميتُ يدَها فأزالت الأخرى عنِّي طواعية، وقبل أن ألوذَ بغُرفَتي مِن الانفِعالِ الَّذي تحقِنُه فيَّ رؤيتُها قُلت مُحذِّرًا:
" ولا تمدِّي يدَك عليَّ ثانيةً. "
ما كِدتُ أبثُّ في قناتِها منظَر ظهري حتَّى نطَقت تشلُّني.
" بالطَّبعِ فقد ألِفتَ القَذارَة وألَّفتَ فيها حضارة لا تنقرِض، لن تستَسيغَ الطّهارَة بعدَ الآن... هل اشتَقتَ إلى ليالي اللَّهو والمُقامَرة بأنفاسِك؟ "
كُنت مُرهقًا مِمَّا يجري، مِن التَّفكير في الآتي، واستِذكارِ الماضي، لا مِزاجَ لديَّ للمُشاجَرة، لذلِك خطوتُ مُتجاهِلًا الإهانَة في سطورِها، وما بينَها، واستهدفتُ الدَّرج.
" تِلك السَّاقِطة، إمَّا أن تصفِّيَ حياتَك مِنها، أو أن أُصفِّيَ الحياة مِن وجودِها. "
انعَطفَ رأسي دونًا عن بقيَّة جسدي.
" أتُهدِّدينَني؟ "
" جرِّب لتعلَم ما إذا كان كلامًا فارِغًا أم حقيقة. "
عُدتُ أدراجِي محافِظًا على توازُن نبرَتي رغم هولِ ما يعتمِل فيّ.
" تجهلينَ أيٍّ مدًى قد أصِلُه لتحقيقِ غاياتي، ولن يعلَم أحدٌ ما اقتَرفتُه لأصلِه، حبَّذا لو تتصرَّفي بحكمةٍ، مهما بلَغت مِن الجُنون، فلن تُحاذي جُنوني. "
ما إن أدركتُها حتَّى سحبتُ مُقدِّمةً فُستانِها، غير مُكترثٍ لِما قد يُكشَف لي مِنها، مُذ أنَّ بصري المُفعَم بالغلِّ لم يُفارِق عينيها المُستفزَّتين.
" إن لمستِ شعرةً واحِدةً مِن جلدها، لأحرقنَّك ومَن حولَك بِلا شفَقة. "
اصطَدمت يدِي بأضلُعِها، حينَما دحرتُها إلى الوراء مُفلِتًا ثوبَها... كُنت موقِنًا أنَّها تُخزِّن الكثيرَ مِن الأعذارِ في جُعبتِها.
" أمُستعدٌّ أنتَ لتخسَر ما بنيتَه طوالَ السَّنواتِ الماضيَة، خِلال مسيرتِك العسكريَّة مِن أجلِ مُراهقةٍ تخلَّلت حياتك مُنذ أشهرٍ قليلة؟ "
تلمَّست صدري بوقاحَة؛ تُشعِرني دائِمًا أنِّي أُحدِّثُ نفسي كُلَّما اقتَرفت ما نهيتُها عنه، هِي أحدُ أسبابِ اعتِناقي للصَّمت.
" أنتَ لستَ الغبيَّ الَّذي يُصغي إلى نزواتِه حينَما تهمِس لهُ باقتِفاءِ طريقِ الخسَارة، أعرِفُك جيِّدًا، لستَ الرَّجُل الَّذي قد يُضحِّي بشيءٍ مِن أجلِ شيء، أو بما يملك لأجلِ ما لا يملِكه، فإمَّا كِلاهُما، أو ما لديه. "
على ضِفافِ نهري نَبتت ابتِسامةٌ بريَّة لم أغرِسها قطّ، ذبُلت بمُجرَّد ما انتَهت مِن الكلام.
مسَحت على رأسِها بيدي الآليَّة مُتلاعِبًا بأعصابِها، لاشكَّ وأنَّها وعَت آنذاكَ أنَّها لن تُصيبَ صميمي مهما شحذَت نبرتها،وذخَّرت أحشاءَها بالنُّفوذ.
" أصبتِ في نُقطةٍ واحِدة جُزئيًّا، صحيحٌ أنِّي لا أضحِّي بشيءٍ لأجلِ غيرِه، لكنِّي إن أردتُ شيئًا ملكته، وإن وقَف أحدُهم في طريقي، فسيدفعُ الثَّمنَ غالِيًا. "
نعى لي جفناها الموصَدان عن رعشةِ الخوفِ الَّتي دبَّت في صدرِها، خوفٌ مِمَّا قد أفعلُه بِها الآن، والمنزِلُ خاوٍ مِن الخَدم.
" إلى متَى تخطِّطين للإبقاء على الضّمادة؟ "
دفعتُ رأسَها بِخفَّة.
" بدأتُ أملُّ مِن هذِه المَسرحيَّة فلا تُرغميني على فضِّها بيديّ، أنتِ الأدرى بأعصابي. "
تركتُها خلفي مُلجمة وصعِدتُ إلى غُرفتي لأحظى بحمَّامٍ مُريح.
أحيانًا يكشِف لنا البُعد ما تخفَّى بينَ التَّحامُلِ والتردُّد في أفئِدتنا، أحيانًا يُعرِّفُنا البُعد على ما تغرَّبَ عنَّا مِن عواطِف مُنذ الميلاد، وكَم كبُرت فينا إلى درجةِ أنَّا عجِزنا عن تمييزِها، رغم أنَّها تحمِل أمشاجًا مِن اللَّهفةِ فينا.
خِلالَ الفترةِ الَّتي بقيتُ فيها بعيدًا عنها، أدركتُ أنَّها قد حجَزت جُزءًا عظيمًا مِن اهتِمامي، وأنِّي قد افتَقدتُ رؤيتَها ومُسامَرتها على تراتيل اللَّهفةِ الرنَّانَة في مُقلتيها، أنا الَّذي نصبتُ الحواجِز مِن حولي أُستَعمَر مِن قبل طِفلة، لعلَّها الحقيقةُ الَّتي أنشبت الغضَب في أقشاشِ صدري، لذلِك نفثتُ جمراتِه عليها، يومَ التَقيتُ بها.
سكبتُ مِن وقتي مِدرارًا على أرضٍ بورٍ لن تُنبِت إطلاقًا، لمُجرَّد إبعادِي عن الشُّبهات، وحِمايَة مصلَحتي الخاصَّة، لكنِّي تيقَّنتُ أنَّ مصلَحتي ما كانَت يومًا في هذَا الجاهِ المُتراكِم، مُذ أنَّه يُكلِّفُني التَّضحيَة بنفسي، أنا الَّذي جاهَرتُ أنِّي لا أضحِّي بشيءٍ لأجلِ شيء، بل أكسبُهما سويًّا ولو دفَع الجميعُ الثَّمن، كأنَّها ما خُلِقت في حِياتي إلَّا لتُثبِت لي أنِّي قد خُدِعتُ بغُروري، كُلُّه زائِف، مِثلَما أنا زائِف.
لستُ جبانًا لأخاطِر، ربَّما لم أمتلك الدَّافِع فحسب، والآن وقد افتَرش يدي، فأنا مُخيَّرٌ بينَ الإمساكِ بِه أو إفلاتِه لكنِّي حائِر.
رماني الشَّوقُ أيَّانَ الغُروب بالمَكان الوحيد الَّذي نالَ لقبَ البيتِ، بعرقِ الحُبِّ المُتبلوِر في جُدرانِه لو أنَّها تذكُر، أملتُ أن تهلَّ في فضائي الضَّرير، وتُنيرَه بضيائِها مهما بلَغ مِن الانطِفاء، علِمتُ أنِّي سأتعرَّضُ للاستِفزاز، قد تشقُّ صبري بفُؤوسِ مكرِها، ولكنِّي لم أشُكَّ ولو لثانيةٍ في أنَّي سأُسحَق بغِيابٍ آخر.
نبّشتُ المنزِل بأسرِه حتَّى مناطِقَه المخفيَّة، لم أعثُرَ لها على أثَر، حتَّى ثِيابُها مُختفيَة. حينَما انحلَّ اليأسُ بدِمائِي الفائِرة غادرتُ الشقَّة وقصدتُ عونَ الأمنِ الَّذي لا يُبارِح موقِعه عِند مدخلِها، مُستفسِرًا ما طرأَ في آوِنةِ غِيابي.
" تذكُر الصبيَّة الَّتي تعيشُ برفقتي، أليسَ كذلِك؟ "
حالما أطرَق برأسِه مُؤكِّدًا، واصلتُ استِجوابَه.
" مَتى كانت آخر مرَّة لمحتَها فيها هُنا؟ "
" لقد غادَرت بالأمسِ ولم تعد بعدَها، أعتقِد أنَّها رحَلت، إذ كانت تحمِل بيدِها حقيبَة سفر. "
تمتمتُ بسُخط.
" قضَت اللَّيلَة خارِجًا، المِياهُ تجري مِن ورائِي وأنا غافل! "
مِلتُ عنه مُشتِّتًا الخُصلاتِ المُنزلِقة على جبينِي، لعلَّها تمتصُّ بعضَ العصبيَّة الَّتي فاضَت في عُروقي، حتَّى كادَت أوداجِي تنفجِر.
ما خِلتُ أنَّ الأفولَ سيُداهِمني عِندما أخلو مِنها، وما خِلتُ أنِّي الرَّجُل الَّذي يترُك أبوابَ الرَّحيلِ مفتوحةً ليُغادِرها مَن شاء متى ما شاءَ قد أتخطَّى عتَبتها مِن أجلِها، كأنَّها سرَقت مِن صناديقي كُلَّ ما ادَّخرتُه طوالَ عُمري.
لم أفقَه ما خطبي، أهُو جُرحٌ ذُكوريّ ينضح، أم هُو القلقُ فيَّ يُضخّ مِن حيثُ لا أحتسِب، كأنَّ جسَدي مُنشقٌّ عن سُلطاني، يتَّبِع سيلَ الذِّكرياتِ الجارِف إلى مصيرٍ يُضرُّ بكِبريائي. أمكَنني التخلِّي عنها لكنِّي اتَّخذتُ مِن تجاهُلِها لي عُذرًا، ومِثل المُنوَّم سيَّرتُ مركبَتي إلى الملهى، مُرادي هُو سيهون، مالِكُه، ورجُل الكواليس الَّذي يُنجِزُ كُلَّ ما نعجزُ عنه كشخصيَّاتٍ عامَّة، لها سُمعةٌ هامَّة بمثَابة النَّفس.
واربتُ البابَ فإذَا بِه واقفٌ على مسافةٍ مُحتضرةٍ مِن مكتبِه، يشحنُ مسدَّسه بطلقاتِ الموت، قبل أن يرصدَني في مدارِ بصرِه.
" حضرة الجِنرال، إنَّها المرَّة الأولى لكَ هُنا مُنذ زمن. "
بدا مذهولًا كأنِّي لستُ الرَّجُل الَّذي يعدّ هذا الوكر مُتنفَّسًا له في كُلِّ ليلة... انحازَ أحدُ شدقيه إلى الأعلى مُخلًّا باستِواءِ فمِه.
" لم أتوقَّع حُضورَك اليوم، وإلَّا لحضَّرتُ مِن أجلِك أجوَد النِّساء. "
ما انتَظرتُ دعوتَه لأضخَّ خطواتي إلى عُقرِ الحُجرة ببرود.
" لستُ هُنا لأجلِ النِّساء. "
بل مِن أجلِ امرأة... يا للسُّخرية!
" لستَ هُنا لرُؤيَتي بالطَّبع، هل ثَمة مُشكِلة تستَدعي تدخُّلي مِثل العادَة؟ "
وددتُ لو أحكي بكامِل بُرودِي المهيبِ، وددتُ لو لا تتداخَل عواطِفي بصوتي، لكنِّي انفَعلت، وشهد غضَبي المريرِ عليّ، مِن فكيّ المُتداحرين إلى قبضتيّ المَشدودَتين، كذَا قدميَّ اللَّتين تخبَّطتا في بُقعةِ وقوفي باضِطراب.
" فلتُسخِّر كُلَّ يدٍ ترأسُها للبَحث عن مكان كيم مينِّي، أُريدُ عُنوان تواجُدِها بينَ يديّ في أقربِ وقت، لا بل أريدُها أمامي، ومهمَا كلَّف ذلِك مِن جُهد، حتَّى وإن اضطررت إلى تفتيشَ كوريا برمَّتِها، أُعثر عليها حيثُما هِي، وائتني بِها. "
رفعَ سُترتَه عن خصرِه بضعةَ إنشاتٍ ثُمَّ دسَّ المُسدَّس في صوانِه الجِلديِّ المُفصَّل على قوامِه، والمُثبَّتِ بحِزامِه.
" رويدَك أيُّها الجِنرال ريثَما أفتهِم، كيم مينِّي هِي ذاتُ الطَّالِبة الَّتي تربِطك بها علاقة غراميَّة، أليسَ كذلك؟ "
لم يرُق لي الإطارُ الَّذي حصَرنا بداخِله، لكنِّي اعتصمت بحبلِ الصَّمت، وألقَت عليه عينايَ لعناتِها حتَّى قال:
" اشرَح لي ما الَّذي جَرى بينَكما لتجهَل مكانها، لقد كُنتُما كعصافيرِ الحُبِّ المُغرِّدة في عزِّ الرَّبيع مُنذ مدَّة قصيرة. "
أشحتُ بوجهي مُسلِّطًا بصري على ركنٍ لا يشمُله، وغمغمت.
" كُلُّ ما في الأمرِ أنِّي لم أكسِر قدميها كما ينبَغي، ابحَث عنها بِلا أسئِلة. "
اختَطفني مِن شُرودي في أفكارِي الضَّبابيَّة حينَما هزِئ.
" لاشكَّ وأنَّ تِلك الطِّفلة قد غسَلت دِماغَك لتسعى خلفَها بكُلِّ هذِه اللَّهفة... إمَّا أنَّها سرقت أموالك أو سرَقت قلبك. "
بعُسرٍ استطَعتُ مُقاومَة شياطيني الَّتي حرّضَتني على إضافَتِه إلى حصيلةِ الهالكين، واكتفيتُ بإنذارِه.
" فلتُوفِّر ثرثَرتك إلى يومٍ آخر، لستُ في مِزاجٍ للإصغاء، ولا بقادرٍ على الردِّ سِوى بالقَبضة. "
" هوِّن عليكَ يا رجُل، لقد كُنت أُمازِحك فحسب. "
لقفَ هاتِفَه مِن تجويفِ سِروالِه الكلاسيكيّ، وطرقَت أنامِله أرقامًا مدروسةً على شاشَتِه، ثُمَّ أرساه على مشارِف أُذنِه.
" جليٌّ أنَّها تعنِي لكَ الكثير، عجبًا كيفَ تمكَّنت مِن التكيُّفِ فيكَ رغم برودِك، وتشييد معنًى يخُصُّها وحدَها مِن لُغتِك الشَّحيحَة، يا سيِّد الصَّمت! "
ارتَعشَ فكِّي السُّفلي حِنقًا، قبل أن توقِد حُنجُرتي زمجرةً مُحتدمة.
" أوه سيهون! "
بنبرةٍ حازِمة لفظَ أوامِره لمَن فتَح نافِذة الاتِّصالِ توًّا.
" فلتحشُد جميعَ الرِّجال دونَما استِثناء، هُناك مُهمَّةٌ مُستعجلة. "
ما إن اطمأننتُ غادرت.
بعدَ أن فضفضت عمَّا اعتَراني، وعرَّانِي مِن سرابيل الرَّجُل الَّذي لا يكترِثُ لامرأة، أدركتُ أنِّي كُنت قادِرًا على إرسالِ أمري في رِسالةٍ نصيَّة، عوضًا عن المجيء شخصيًّا، والَّذي يزجُّني في دائرة الظُّنون، رغمَ أنَّها بعيدةٌ عنِّي!
دُستُ بلاطَ الشَّوقِ إلى حِصني، لم تردَّ عنِّي أسوارُه الشَّاهِقةُ مرَدَة القلق، الَّذين ما انفكَّوا يمسَخون فِكري، ويعيثونَ بفُؤادي فسادًا؛ بتُّ أُفكِّر أينَ هِي، ولِم غادَرت رغمَ أنَّ غِيابي ما طال بعد، هل لأنِّي قسوتُ عليها يومَ فرضَت عليَّ الحقيقةُ شِجارًا حامِيًا؟ أم أنَّها تمتحِنُ مَدى انِجذابي لها، وما إذا كان سيُسوِّل لِي مُطاردَتها؟
لستُ أطارِدُها حبًّا بِها، بل لننصبَ النِّقاط على أجداثِ الحُروف سويًّا.
اقتَحم الصُّبحُ السَّماء عمَّرت أضواءُ قِنديلِه الشَّوارِع، وجَلدني الواجِبُ صوبَ الثَّكنة العسكريَّة، حيثُ نزفَ عُمري وقتَه الثَّمينَ هدرًا، فلا أنا اقتدرت أن أُركِّز على ما ثوَى مكتبي مِن عُقدٍ تستحثُّ الحلّ، ولا أنا بادرتُ بمُساعَدةِ نفسي الغارِقةِ في الهواجِس؛ ما تفتأ خالِدةً ببالي رغم أنَّها توفِّيت في مُقلتيّ، وما تفتأُ مُشتعلةً في فُؤادِي، تنطِق باسمِها ألسِنة الغضبِ الزَّاحِفةِ في جسدي، تلتهِم استِقراري، وتتجشَّأ ندوبًا.
وها هُو ذا المساءُ يستحوِذُ على السَّاحَة مِن جديد، مُغيِّرًا ديكورَ السَّماءِ بريشَته، دونَ أن يرِدني خبرٌ يُكمِّدُ جُرحي، وبينَ اللَّحظةِ والأخرى كانت نظراتِي تعرُج على الهاتِف بتساؤُل ثُمَّ ترتدُّ إلى مشاغِلي بحِقد مُضاعَف. سجلُّها فيَّ يسودّ ويتَّسِخ، والويلُ الَّذي يتحيَّنُها يعظُم، لقد وقعَ العديدُ مِن الجُنودِ ضحيَّة لمِزاجِي العكِر هذا، إذ ربطتهُم بعقوباتٍ قاسية لعلَّها تشفي غليلي، فما يهوِّد مُعاناتي، إلَّا جعل غيري يُعانون!
الإقامَة الجبريَّة الَّتي فرضتها عليَّ الظُّروف وعدوَّ مُهجتي اللَّدودِ ما زادَ أعصابي إلَّا تصدُّعًا، لاسيمَا وأنَّها تُحاوِلُ الوُصولَ إليَّ عبرَ مضايِق الرَّغبةِ المُلتويَة، بثيابِها الفاضِحَة، تظنُّ نفسَها بذلِك قادرةً على سنِّ حكمٍ بالمُؤبَّد بحقِّي، بيدَ أنَّها تزيدُني نُفورًا... عقِبَ العشاء فررتُ مِن أحاديثِها الَّتي لا طائِلَ مِنها، ومِن غزلِها المُرِّ إلى غُرفَتي، ما فرَّطتُ في حمامِيَ المسائيّ، وأفرطتُ في تسخينِه لحرقِها.
بعدَ شطرٍ مِن السَّاعَة كُنت خارِجَ الشُّرفَة المُطلَّة على الحديقَة الأماميَّة، ما تزالُ مُشرقةً على غِرار علاقتِنا، صدري متدثِّرٌ بقميصٍ قُطنيّ نبيذيّ، يسفله بنطلون أسوَد، يدي الآليَّة بجيبِه، فيما توأمتُها تُديرُ مِنشفَة على قمَّة رأسي... بينَما أنا شاردٌ في اللَّاشيء، أنَّ هاتِفي لافِتًا انتِباهي، كانَ راقِدًا على سريري ذي المُلاءات السَّوداء، رفعتُه فإذا بِها رسالةٌ مِن سيهون، بالأصحّ ردٌّ على رِسالَتي السَّابِقة.
- ما أخبارُ البَحث؟
- لم نعثُر عليها بعد.
ألقيتُه بإهمالٍ مُستأنفًا تجفيفَ شعري.
سُرعان ما فُرِع بابُ الغُرفة واصطَدم بالحائِط بقوَّة، وانفَجرت هيئتُها في عينيَّ كقُنبلةٍ موقوتةٍ ما حسبتُ لها حِسابًا، بالكادِ صدَّقت أنَّها قُبالَتي، بقطعٍ بسيطةٍ تُوارِي بدَنها، تُعادِل عُمرَها، ولكنَّ الألَم فيها ناهَز عُمرَه.
قبلَ أن تراني صرخَت بسُخط مُتَّقد.
" أُخرج حيثُما كُنت، أعلَم أنَّك هُنا أيُّها الجَبان. "
عيناها اللَّتين لطالَما فاقَ حجمُهما حجم الدرِّ تقلَّصتا تُشابِهانِ هلالَ شهرٍ قمريٍّ يحتضِر، وضحِك ثغرُها بمرارَة.
" وجدتُك. "
أتاحَت لخُطاها الاعتِداء على حُرمةِ غُرفتي؛ المُريبُ في الأمرِ أنِّي لم أرَ لإن ها أثرًا مِن ورائِها، كأنَّها غيرُ مُكترثةٍ لهذِه المُداهَمة، ورُبَّما أذِنت بِها!
تخلَّعت في مشيِها، بينَما تلتحِفُ الاستِخفافَ قِناعًا.
" هل تستمتِع بالإقامَة مع زوجتِك، واستِرجاعِ أيَّامِكما الخوالي على فِراشِ الحُبّ رغمَ أنَّك نفيتَ الشُّبهات عنك سلفًا، وأكَّدت أنَّك لن تهويَ في كمينِها ثانيةً؟ أرى أنَّك قد هويتَ في هواها، لا مُجرَّد كمين. "
كلِماتُها المُترنِّحَة، وجسدُها المُتمايِل وشيا لي أنَّها قد ارتَشفت مِن الشَّرابِ المُحرَّم حدَّ السَّكر، رغمَ أنِّي نهيتُها عنه مِرارًا وتكرارًا.
حالُها المُريعَة هذِه فتَّقت صبري كُلَّه، ووسَعت فجوةَ القلقِ بجوفي، فانزلقت المِنشفةُ مِن يدي الَّتي قصَّرت في إمدادِها بالثَّبات، وافتَرشَت الأرضَ.
اندَفعتُ نحوَها بجموح مُكبِّلًا كتفيها، كذلِك اليوم.
" كيفَ تُخلينَ المنزِل دونَ إذنٍ مِنِّي؟ أينَ كُنتِ بحقِّ الجَحيم؟ ولِم أنتِ مخمورةٌ إلى هذا الحدّ؟ "
أماطَ كتفاها يديَّ بحركةٍ طفيفةٍ مِنهما، وحفَرت نظراتُها الحادَّة جُدراني، كأنَّها لا تَرى ما توارى خلفهُما مِن غضبٍ حتَّى صبَته، وألهبته.
" لا حقَّ لكَ باستِجوابي كأنَّك تكترِثُ لأمرِي. "
قبل أن أنتقِيَ مِن خزنةِ قسوَتي ردًّا يُفحِمها، ويفحِّمُها، لانَت صلابتُها اللَّحظيَّة، واهتزَّ صوتُها المَحمول على موجِ الشَّجن.
" لقد سحقت جميعَ لحظاتِنا الجميلة، ومزَّقتني مِن حياتِك بنزق، هل ما بينَنا هيِّنٌ لتنهيه برِسالة؟ أم أنَّك استَحييتَ مِنِّي؟ "
عبرت تنهيدةٌ مِلؤُها السُّموم ثغري، فيما اندسَّت عدستاي بمغارتيهما لوهلة.
" لا أدري ما تهذينَ بِه... "
ما كِدتُ أفرِّغُ جُعبَتي مِمَّا احتَشد فيها، حتَّى ترقرقت المِياهُ في جفنيها مُنذرةً ببكوة، واغتالت إرادَتي في مهدِها.
" تعلم أنَّ أشخاصًا مِثلي يُخدَعون بيُسر، ويزيِّفونَ ما يتلقَّونه مِن العواطِف أيٌّ كانت مُسمَّياتُها، يُخطِئونَها بالحُبّ، لكمِّ الشَّبهِ بينَه وبينَ الشَّفقة، لوهلةٍ ننسى مِن أينَ جِئنا، ونتعلَّق بآمالٍ واهية، في أنَّنا قد نؤولُ إلى نعيم، لقد واصَلت مُعامَلتي بلُطفٍ حتَّى خِلتُ أنَّك لن تتخلَّى عنِّي ما حييت، حتَّى وإن لم أُحرِّك. "
ارتَقت نبرتُها منصِبًا ليسَت مِن أهلِه، فتهدَّجت بعضَ الشَّيء.
" أنتَ مُجرَّد رجلٍ كاذِب بيكهيون. "
تزامُنًا وسقوطَ أوَّل دمعةٍ مِن جنَّتيها، انهالت يداها على صدرِي باللَّكمات.
" أنَّى لكَ أن تتخلَّص مِنِّي وكأنِّي حذاءٌ بالٍ ثُقبَ لفرطِ ما انتَعلته، كلُفافةٍ انقدَّت لفرطِ ما لثَّمتها، لستُ لُفافةَ سجائِر، لستُ أنا المرأة الَّتي ترضَى بمِثل هذا الانفِصالِ الجائِر، أتسمعُني أيُّها الجِنرال؟ "
لم أدرِ ما أصابَها أيَّام الفراق، كيفَ ذبلت الأكاليلُ الَّتي اعتادَت أن تُطوِّقَ بِها مرآي، كأنَّها غيرُ الصبيَّة الَّتي لطالَما ركعَ جفناها في حضرتِي حُبًّا، بل ذاتُ الطِّفلةِ المجروحَة الَّتي تعثَّرتُ بِها، وخِلتُ أنِّي أصلحتُ أعطابَها... أهيَ الغيرةُ تطعنُها في اللبِّ رغمَ أنِّي لم أدَّخِر كلمةً في نحرِها، أنا الرَّجُل المُسلَّحُ بالصَّمت؟
حزمتُ مِعصميها سويًّا وسطَ كفِّي، وبسماحَة تغاضيتُ عنها.
" أنتِ ثمِلة، نتحَدَّث بعدَ استيقاظِك. "
أعطيتُها مُهلةً لتستجمِع شتاتَها ثُمَّ حرَّرتُها، لكنَّها لم تستكِن، وبكُلِّ برودة دم كسَرت آنيةً خزفيَّة كانت مُتوطِّنة على مِنضدةِ التُّحف العريضَة، والمقسَّمةِ إلى ثلاثِ طوابِق عارية، كأنَّها محضُ أرفُف شامِخة.
" نتحدَّثُ الآن، لم أكُ مُستيقظةً مِن قبل كما أنا الآن صدِّقني. "
في عُهدةٍ حكمَتها الدَّهشة صعِدَت درجاتِ السموُّ غيرَ عابئةٍ أنَّها قد تتدَحرجُ إلى السَّفح، لو أنَّا أيَّدتُ الغضَب وأطلقتُ بعثاتِه.
" لقد عِشتُ كدميةٍ لكَ طوالَ هذا الوقت، مثَلتُ لجميعِ العواطِف الَّتي بعثتها فيّ، بل تِلك العواطِف هي الَّتي كسَرت سيقانَ عِنادي، وأخضَعتني لها، حتَّى صرتُ عاجِزةً عن الحراك بعيدًا عنك. أعلَم أنَّك لا تعتذِر، لكنِّي لن أسمَح لكَ بأن تتخلَّص مِنِّي هكذَا، بلا أيَّة أعذار. "
أنا أشارِف على النَّفاذِ مِنّي، ولو ظلَّ هذا الجسدُ خاويًا لشظيّةٍ مِن الثَّانية فسوفَ يهتِك بِها، دونَ أن يُلقِيَ اعتِبارًا لجُروحٍ لا أعرِف مواقِعها، دون أن يُصغيَ لشكاوي قومِها، الَّتي تُناجيني لأهبَها تِرياقًا وأنا جاهِل بعلَّتِها.
قيَّدتُ أنامِلي براحتيّ يديّ، بينَما أُحاوِل أن أُنظِّم أنفاسِي المُتسيِّبة.
" كفاكِ جُنونًا، بالكادِ أمسِك يدي عن تحطيمِ وجهِك، فلا تزيدي الطِّينَ بلَّة. "
هِي الرَّعشةُ الَّتي كثيرًا ما ضَربتني على فِراشِ الهَوى، تُرديني اليومَ طريحَ السُّخط، إذ ضحِكت في موقفٍ يُلزِمُها بالصَّمت، ثُمَّ استَسلمت لِما يُحارِبُني لنيلِها، وراحَت تُحطِّمُ كُلَّ ما يقعُد على سطحِ المنضدةِ مِن أسطوانات.
" نعَم أنا مجنونة، آخرُ خيطٍ يربِطُني بضفَّة العقلِ انقَطع بالفِعل لحظَة تبرَّأت مِنِّي، ومِن حُبِّي، أتَدري كيفَ شعرتُ يومَها بينَما أرى كُلَّ ما خِلتُه حبيسًا بكفيَّ ينسابُ مِن بينِ أنامِلي كأنَّه مُجرَّد وهم مِن وحيِ خيالي؟ "
أوشَكتُ أن أُسلِّم زَمامَها لأعصابي، لكنِّي تمالكتُ نفسي في آخِر لحظَة، للمرَّة الأولى أُخفِضُ أسلِحتي أمامَ امرأةٍ رغمَ أنَّها تستحقُّ كُلَّ طلقةٍ منّي، لأنِّي الطَّرفُ الواعي هُنا. كانَ عليَّ ردعُها عمَّا هِي فاعلتُه، لأُخفِّفَ في حُكمِها حينَما تعِي، وبذراعيَّ اختَزنتُ جسدَها مِن دُبر، أمنعُها مِن إحداثِ المزيدِ مِن الفوضى.
" توقَّفي. "
رغمَ وهنِها سعَت إلى نزعي عنها، كأنِّي نارٌ تُحرِقها.
" ابتعِد عنِّي. "
وكمَا انهارت عبراتُها مُتخمةً بالآهات انهارت ذراعاها، وخارَت قواها.
" تجهَلُ إلى أيِّ مدًى أنا أتألَّم. "
سُرعان ما سقَطت بينَ ذراعيَّ كملاكٍ مِن السَّماء، ملاكٌ أنا الَّذي دنَّسته، وربَّما شيطانٌ ردمتُ جميعَ أبوابِ التَّوبةِ حينَما فُتِحت لأجلِه.
عيناها اللَّتين امتلأتا بالآلامِ مُنذ قليلٍ أضحيتَا خاوِيتين على عُروشِهما، قبل أن تنطبِق مصارِعُهما، كأنَّها مِن تحتِهما صرعى، وعبرت حرارة ذراعيها العارِيتين إلى كفيّ.
كانت محمومَة، وأنفاسُها لاهِثة!
" سوفَ أجنّ قطعًا. "
-
شو رأيكم بالفصل!
أكثر جزء عجبكم ومعجبكم!
ميني!
بيكهيون!
سيهون!
تشان!
إن ها!
إلى أين ذهبت ميني بعد مغادرتها منزل بيكهيون!
ما السر وراء الرسالة التي وصلتها!
*سؤال تافه اي كناو😂*
ما الذي سيحدث بعد ان تستيقظ! هل يُعاقبها!
توقعاتكم للفصل القادم 😎
مومنت بحجم مؤخرة نيكي ميناج بيني وبين بيكهيون 😭💃💃
الفصل بعد
250 فوت
600 كومنت
إذا تحققت الشروط بنزل الفصل الجاي بعد 3 أيام 😎 كلشي جاهز 🚶
دُمتم في رعاية الله وحفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro