(2)
بقلم نهال عبد الواحد
قالت خديجة: ومن يكون السلطان سليمان الذي تتحدثين عنه يا جدتي؟
ضيّق عيسى عينيه وأجابها: مؤكد أنه الحاكم .
أومأت الجدة: أجل هو الحاكم ،السلطان سليمان هو ابن السلطان سليم خان الأول، حكم البلاد لمدة طويلة (1520:1566) سميَ بسليمان القانوني وأهل الغرب سموه سليمان العظيم وقد كان عظيمًا حقًا، فهو فارس قوي خاض حروبًا و فتوحاتًا عظيمة وصلت إلى الشرق الأوسط، وفي شمال إفريقيا حتى الجزائر، وفي دول أوروبا إلى مملكة المجر، كما كان قاضيًا حكيمًا، وكان متواضعًا للغاية، وكان أيضًا محبًّا للحيوانات ورفيقًا بهم.
قالت لارا: مثلما فعل مع الفرخ الصغير!
ضحكت الجدة قائلة: أجل صغيرتي، فبعد يوم الصيد أمر بإنشاء بيوت للطيور لتقيها من البرد، وعندما كان يبني مسجد السليمانية وأمر بعدم زيادة الأحمال فوق ظهور الدواب.
تابع عيسى: مؤكد قد أعجبتكِ بيوت الطيور تلك يا جدتي!
أومأت الجدة: أجل، جدًا! فكنتُ ولازلتُ مولعة بالطيور.
قالت خديجة: أود أن ألعب مع الطيور في الحديقة جدتي.
فصاح عيسى ولارا معًا: لا بعد نهاية الحكاية!
فضحكت الجدة ثم قالت: كان عيسى أخي يذهب كل صباح إلى المعسكر و يعود مساءً، كان سعيدًا للغاية رغم قلقي عليه، وخوفي بشأن فراقه، كم ندمت أني من فاتحتُ السلطان في ذلك الأمر!
مرت أيام وأيام و لا جديد غير أنه صار لأخي راتبًا فلم أعد بحاجة للعمل، فصرت أذهب للسوق من أجل الشراء.
ولما صدرت الأوامر بموعد رحيل الجيش لفتح رودس بكيت بشدة، كنتُ أخشى أن أصير وحيدة، أخشى فراق أخي، ومن ثَم أصررتُ أن أذهب معه، ومهما قال لي أخي لم أتراجع فاضطر أن يصحبني.
وفي يوم السفر تفاجأ بي قادته في الجيش فأخبرهم أني أخته الصغيرة وليس لي من رفيقٍ ولا ونيس فكل الأهل قد رحلوا، ولما رفض، تحدثتُ أنا و طلبت مقابلة السلطان.
بالطبع سخر مني القائد فمن أكون لأقابل السلطان أو حتي أذكر إسمه بين شفتيّ! فأخبرته أني آن أخت عيسى و رفيقة الفرخ الجريح.
ورغم تذمر القائد و وضوح عدم فهمه إلا أنه اضطر للذهاب بي إلى السلطان فاستأذن فأذن لي بمقابلته.
دخلت تلك المرة بلا خوف لكني كنتُ أمشي على استحياء فانحنيتُ وألقيتُ التحية: السلام عليكم ورحمة الله، مولاي السلطان العظيم، أنا آن أخت عيسى و رفيقة الفرخ الجريح.
فرد عليّ بصوتٍ باسم؛ حيث كنتُ أنظر أرضًا، فقال:
أهلًا صغيرتي، أذكرك طبعًا، هل رأيتِ بيوت الطيور التي أمرت بصنعها؟
أجبتُ: أجل مولاي، إنها رائعة حقًا! حفظك الله ونصرك على الأعداء!
تحدث السلطان: ما سر مجيئكِ إلى هنا يا ترى؟
ابتلعت ريقي بتوتر وأجبتُ: يا مولاي، أيها السلطان العظيم! كما تعلم أن ليس لي سوى أخي، وهو الآن مسافر للجهاد، وأود لو..... لو.... لو ذهبتُ معه، أخشى المكوث بمفردي.
فأجابني السلطان بصوتٍ جديّ: لكن هذا أمرًا خطيرًا، إنها حرب وقتلى و دماء، لا وجود للأطفال.
سيطرت علي العَبرة وتحدثتُ بصوتٍ مختنق: أرجوك مولاي السلطان! أرجوك!
تنهّد السلطان على مضض ثم قال: حسنًا لكن انتبهي واحترسي، وسِيرِي كما نسير، ولا تتحدثي إلى أحدٍ مطلقًا، ولا إلى أخيكِ.
شعرتُ بعد مقالته هذه بشعور الغريق عندما يجد ما ينقذه، فأجبتُ ممتنة وأنا أمسح عينيّ بطرف كُمي: أجل، شكرًا لك يا مولاي.
انصرفتُ وسرتُ مع الجيش كما أمرني السلطان، ونفّذتُ كل ما قاله بالضبط.
تسآل عيسى: لكن ياجدتي إن كان السلطان سليمان القانوني عظيمًا كما تقولين فلماذا يذهب لقتال آخرين في بلادهم؟!
أجابت الجدة: الجنود في جزيرة رودس كانوا مدعومين بالكنيسة في روما وكانوا يهاجمون السفن الإسلامية و يقتلون المسلمين وينهبون أموالهم، حتى أنهم هاجموا سفينة للحجاج، فلما علم السلطان عزم على الخروج إليهم، ولما علم أمير الجزيرة ود لو دفع الجزية ليأمن بنفسه.
لكن السلطان قد انتبه إليه و رفض طلبه، دكّت المدفعية العثمانية جدار المدينة، و رفض رهبان الجزيرة تسليمها، فحفر العثمانيين سراديب كثيرة ليهاجموهم من تحت الأرض، وقد شاركتهم في الحفر.
ومع استمرار الحصار ونفاذ المؤونة و الذخيرة اضطر أهل الجزيرة للتسليم ودخل القائد السلطان منتصرًا، كنتُ سعيدة بذلك النصر المبين، بالطبع الإحساس هناك يختلف تمامًا عن السرد صغاري.
و رغم حِنقي من أهل رودس لِما اقترفوه في حق المسلمين والحجاج، إلا أني انبهرتُ بتلك المعابد والتماثيل الموجودة في كل مكان، كانت رائعة حقًا.
وبعد وصول الجيش و استراحته ذهبت ألتمس أخي، لكني لم أجده بدأتُ أشعر بقلقٍ و خوف يدب في أوصالي لدرجة تملكتني، وصرتُ أغدو في كل مكان بين الجنود وأسألهم عنه، لكنهم لم يعرفوه فزاد قلقي وخوفي، حتى رأيت أحدهم كان دائمًا بصحبة أخي لكنه ما أن رآني حتى تغير وجهه و اكفهرَّ، فارتعدت فرائسي وخشيتُ السؤال خشية سوء الإجابة، لكن على أية حال يجب أن أعرف، فسألته وأجابني، و ليته ما أجابني!
قضمت الجدة شفتيها محاولة تمالك نفسها، لكن التمعت عيناها بالدمع فأكملت سردها بصوتٍ مختنق: قد قُتل أخي! قتل عيسى! إنه بسببي! أنا من قرّبتُ له الطريق، وكأني قرّبتُ إليه طريق الموت.
فسقطت دمعة حارة من عينيّ الجدة مسحتها سريعًا واعتصرت ألمها وحبسته بداخلها، فما ذنب الصغار أن يروها هكذا؟
فتسآل عيسى: وماذا فعلتِ يا جدتي بعد ذلك؟
أجابت الجدة: عدتُ مع الجيش لأراضي الدولة العثمانية، ولمّا علم السلطان عزم على مجيئي والعمل كخادمة في القصر بدلًا من المكوث وحدي في الكوخ الصغير.
وذهبتُ بالفعل معه للقصر.
فصاحت لارا بسعادة: هل سكنتِ وعشتِ في قصر السلطان يا جدتي؟
أومأت الجدة: أجل، لقد عشتُ فيه أعوامًا عديدة.
فقالت خديجة: يا لحسن حظك يا جدتي!
أكملت الجدة: كنتُ أظن مثلك، بالفعل قد سعدتُ في البداية كثيرًا، لكن حياة القصور صعبة وقاسية للغاية ليست مبهجة كما تظنون، لكل شيءٍ قواعد وأنظمة صارمة، المأكل بنظام...... الملبس بنظام..... النوم بنظام..... ولم يتبقّى سوي التنفس بنظام!
أمثالنا من العامة من الصعب عليهم العيش تحت تلك الأنظمة المشددة، ذلك غير المكائد والضغائن، فلا أحد يحب أحد أو يحب الخير لأحد، كنت أدعو الله يوميًا أن ينجيني من تلك المكائد، خاصةً وأن السلطان كان يسأل عني من حين لآخر، كان يعاملني برفق معاملة الأب لابنته، بل كان أحيانًا يطلب مني صنع بعض الفطائر وأذهب بها إليه، كان حقًا متواضعًا و عطوفًا.
حتى كبرتُ و بلغتُ مبلغ النساء، فقد كنتُ جميلة في صباي، بل فاتنة الجمال.
صاحت لارا: يقولون أني أُشبهك يا جدتي، فلي نفس عينيكِ الملونة وهذا الشعر الفاتح والبشرة البيضاء.
فضحكت الجدة قائلة: بل أنتِ الأجمل!
ثم نظرت لأختها خديجة و قالت باسمة:
أنتما تشبهان أمكما بشدة، وابنتي تشبهني حقًا إلى حدٍ كلير، و آمل أن تكونا فاتنتين في شبابكما.
فضحكت الطفلتان من قول الجدة...........
تتبع،
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro